القلم الذي فضح الرؤساء!

خمسون عامًا مرت منذ استقالة الرئيس الأمريكي الأسبق “ريتشارد نيكسون”، ليصبح أول رئيس يرحل تحت وطأة فضيحة سياسية عن “البيت الأبيض” ويفقد منصب قائد الدولة الأقوى والأكثر تأثيرًا في العالم.
ورغم العقود الخمسة منذ فضيحة “ووترغيت” ما زال الصحفي المخضرم “بوب وودوارد” الذي ساهم في الإطاحة بـ “نيكسون” متربعًا على عرش القلم في الولايات المتحدة الأمريكية كواحد من أكثر الصحفيين تأثيرًا بكشفه للأسرار، ليس فقط بتحقيقاته الاستقصائية ومقالاته المتعمقة، ولكن أيضا بكتبه التي يزيح فيها الستارعن معلومات لا يستطيع الوصول إليها سواه.
اقرأ أيضا
list of 4 items“الحذاء الشرعي”.. بعد إطلالة زوجة أحمد الشرع
فساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
يحتل “بوب” الذي ولد في عام 1943 مكانة مهمة في تاريخ الصحافة الأمريكية والعالمية، وإذا أحصينا القضايا التي فجرتها الصحافة حول العالم وكان لها تأثيرات كبيرة وممتدة فلا شك أنه سيكون في الصفوف الأولى لمشاركته في فضيحة “ووترغيت”.
صعود وسقوط الرئيس
بعد أن قضى ثماني سنوات في منصب نائب الرئيس “دوايت أيزنهاور” بين عامي 1953 و1961، وبعد أن خسر انتخابات الرئاسة أمام المرشح الديمقراطي “جون كيندي” نهاية 1960 وبعد رحلة طويلة من الفشل والإصرار على النجاح وصل “نيكسون” إلى سدة الحكم رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية بعد أن نجح أمام المرشح الديمقراطي “هيوبرت همفري” نهاية 1968.
جاء عام 1972 وبدأت انتخابات الرئاسة الأمريكية بين المرشح الديمقراطي “جورج ماكغفرن” والرئيس “نيكسون” لكن لجنة إعادة انتخاب الرئيس تورطت في اقتحام أفراد منها لمجمع “ووترغيت” الذي يضم المقر الرئيسي للحزب الديمقراطي في السابع عشر من يونيو حزيران 1972.
خيوط الفضيحة
تكشفت الفضيحة السياسية قبل نحو خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية لكن كرة الثلج لم تتدحرج وتكبر إلا بعد الانتخابات التي فاز بها “نيكسون” في نوفمبر تشرين الثاني.
ساهمت الصحافة الأمريكية بما لها من سقف عال في الحرية والتعبير وقدرة على الوصول للمعلومات في جر خيوط الفضيحة وتتبعها ونشرها للرأي العام في الولايات المتحدة، ليكتشف الأمريكان أن أجهزة تجسس زُرِعت بعلم “نيكسون” في مقر الحزب الديمقراطي المنافس لحزب الرئيس.
كانت التحقيقات والتقارير التي أعدها الصحفي الشاب وقتها “بوب وودوارد” في جريدة “واشنطن بوست” مع زميله “كارل بيرنستاين” أبلغ الأثر في إحراج الرئيس “ريتشارد نيكسون” وجعله موضع اتهام بالمشاركة والتحريض أو بالصمت والتواطؤ.
بعد عامين من التحقيقات والمتابعات الصحفية المركزة والعناوين الجذابة والمثيرة تم توجيه اتهام للرئيس نيكسون بإعاقة العدالة وإساءة استغلال السلطات الرئاسية وبعدم الامتثال للاستدعاءات القضائية.
سقوط الرئيس
بعد أن بدا للرأي العام أن الرئيس كان يعرف بوقائع التنصت على الحزب المنافس بدأ الكونغرس الأمريكي مسارًا لعزل “نيكسون” وشرع في اتخاذ إجراءات كانت ستفضي في النهاية للإطاحة به من المكتب البيضاوي.
بعد أن أخفق “نيكسون” في الدفاع عن نفسه وتبرئة ساحته قرر الاستسلام وتقدم باستقالته من منصبه تحت ضغط الرأي العام الذي شكلته الصحافة الأمريكية.
كان للصحفيين “بوب وكارل” دور مهم في الإطاحة بالرئيس “نيكسون” ففي الخامس عشر من يونيو حزيران 1974 وبعد مرور عامين على الإمساك بأول خيوط الفضيحة أصدر “وودوارد وبرنستاين” كتاب “كل رجال الرئيس” والذي سردا فيه قصص الفضيحة السياسية والتحقيقات الاستقصائية التي كتباها خلال عامين معتمدين على مصادر داخل الحزب الجمهوري والبيت الأبيض والحملة الانتخابية للرئيس “نيكسون”.
وبعد نحو ثلاثة أسابيع من صدور الكتاب المدوي وفي التاسع من أغسطس آب 1974 استقال “نيكسون” لتسجل الصحافة الأمريكية انتصارًا كبيرًا ليس على مسؤول أو حاكم عادي ولكن على رئيس أقوى دولة في العالم.
نجاح القلم
تُعتبر فضيحة “ووترغيت” فصلًا مهمًا في تاريخ نجاح مهنة القلم، في أن تكون سلطة حقيقية تناطح السلطات المعروفة وتقف في وجه الفساد بكشف الحقائق للجمهور مهما كان نفوذ المتورطين والوصول إلى المصداقية والثقة وهو باب كبير دلف منه “وودوارد” و”بيرنستاين”.
في عام 1976 أصدر الزميلان كتاب “الأيام الأخيرة” والذي كشفا فيه ما جرى خلال الأشهر الأخيرة من حكم “نيكسون” وكيف أرغمته الصحافة الأمريكية علي الاستقالة بما نشرته عن تورطه وحزبه في التجسس على الحزب الديمقراطي
“بوب” عميلًا
يعتبر “جين روبرتس” رئيس التحرير الأسبق لصحيفة نيويورك تايمز أن ما نشره الصحفيان “وودوارد وبيرنستاين” قد يكون أعظم جهد في كتابة التقارير خلال كل العصور،لكن “روبرت جيتس” المدير الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية تمنى في 2014 لو أنه جند “وودوارد” عميلًا لأن “لديه قدرة استثنائية في الحصول على المعلومات من الأشخاص وعلى جعل الناس يتحدثون عن أشياء لاينبغي أن يتحدثوا عنها”.
“بوب” يستمر
طوال سنوات حياته المهنية التي بدأت عام 1971 في جريدة “واشنطن بوست”، لم يتوقف “وودوارد” عن كشف الأسرار.
في عام 2018 أصدر “بوب وودوارد” كتاب “الخوف.. ترامب في البيت الأبيض” وقد تحدث بشهادات من مصادره كيف أن بعض معاوني الرئيس الأمريكي وقتها “دونالد ترامب” يتجاهلون أحيانا تعليماته، للحد مما يعتبرونه سلوكه “المدمر والخطير”.
قال “وودوارد” في كتابه إن “ترامب” أبلغ وزير دفاعه “جيم ماتيس” أنه يريد اغتيال الرئيس السوري بشار الأسد، بعدما شن هجومًا كيماويا على المدنيين السوريين في أبريل نيسان 2017.
ترامب مرة أخرى
قبل أقل من شهر على موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، بين” دونالد ترامب” الرئيس السابق و”كامالا هاريس” نائبة الرئيس الحالي “جو بايدن” أصدر “بوب وودوارد” أحدث كتبه “War” وكشف فيه خلفيات عن معرفة الرئيس الحالي بايدن بخطط الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لغزو أوكرانيا وعدم تصديقه للمعلومات الاستخباراتية.
لكن تأثير ما ذكره الكتاب عن الألفاظ السيئة التي استخدمها “بايدن” في معرض حديثه مع مساعديه عن “بوتين” ورئيس وزراء دولة الاحتلال الصهيوني “بنيامين نتنياهو” ستكون ضعيفة بعد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي.
وفي عودة ثانية للاصطدام بالمرشح الرئاسي الحالي “ترامب”، ذكر وودوارد في كتابه الذي صدر رسميًا أمس الثلاثاء 15 أكتوبر تشرين الأول الجاري أن “ترامب” تحدث مع الرئيس بوتين نحو 7 مرات منذ غادر منصبه كرئيس للولايات المتحدة، وأنه أرسل إليه أجهزة لكشف فيروس كورونا (كوفيد 19).
التقطت المرشحة “هاريس” المعلومات التي نشرها وودوارد المعروف بمصداقيته وهاجمت خصمها بزعم انتهاكه القانون الأمريكي الذي يحظر تفاوض أي مواطن مع مسؤولين أجانب دون الرجوع للدبلوماسيين، وكالعادة هاجم ترامب الصحفي المخضرم “بوب وودوارد” واعتبره “مخرف ومجنون”.
قبل الانتخابات
ليس معروفًا على وجه الدقة تأثير ما كتبه “بوب” عن “بايدن” وسياسته العلنية والخفية مع إسرائيل على نائبته المرشحة “هاريس”، وكذلك ما ذكره من انتهاك “ترامب” للقانون وتواصله مع “بوتين”، لكن الكتاب الأخير الذي كشف جوانب خفية عن إدارة بايدن وعن سلوكيات ترامب سيستخدم في الأمتار الأخيرة قبل انتهاء السباق الرئاسي لإزاحة هاريس أو ترامب، وفي كل الأحوال سيذكر تاريخ الصحافة أن كتابًا صدر قبل الانتخابات تعهد صاحبه فيه بكشف الأسرار عبر مصادر حية ليكون مباغتًا للديمقراطيين والجمهوريين معًا، والمؤكد أن أحدهما فقط سيكسب وسيخسر الآخر، لكن قلم “وودوارد” حتما سيفوز لإنه تعهد بأن يجري بين السطور هو من أجل الحقيقة والناس وليس من أجل الرؤساء.