بين دماء الشهداء ومداد العلماء

 

بين دماء الشهداء ومداد العلماء يقف العقل العربي مندهشًا، ويتساءل متبرمًا: إلى متى يظل الخط الفاصل بين دماء الشهداء ومداد العلماء قائمًا ممتدًا من الأرض إلى السماء؟ إلى متى يظل الأول سابقًا والثاني لاحقًا؟ ألم يأن لمداد العلماء أن يتدفق في حينه بلا تلعثم ولا ارتباك كما تتدفق دماء الشهداء؟ متى نرى الخطاب والكتاب رائدًا قائدًا ونرى النضال والنزال ماضيًا على أثره كما تمضي القافلة على صوت الحادي، صحيح أن هناك مما سطره العلماء ما يمثل للمناضلين والثائرين متنًا يقومون بشرحه في الميادين، لكنه لا يزال نادرًا ندرة الظلال في البيداء والصقور الجارحة في جو السماء، وما زلنا كلما نزلت نازلة تدفقت الدماء وتناثرت الأشلاء قبل أن تسيل قطرة من مداد على استحياء، فهل هذا هو الوضع الطبيعي أم أن هناك خللًا يجب تداركه ووضعًا مقلوبًا لا بد من تعديله؟

ضخامة المصاب وضآلة الخطاب

ولولا الأثر المباشر للصورة الحيّة المنقولة للناس لكان الوضع المعرفي أشد خللًا واضطرابًا، فلقد سبقت رسائل الدماء التي تفجرت في غزة بين ركامها وحطامها، سبقت إلى المدارك والأفهام وانسربت في عقول المتعلمين والعوام، ووجدت طريقها إلى الضمائر والمشاعر، وحركت في المسلمين وغير المسلمين عواطف دينية وإنسانية، وأنشأت في الجيل كله على المستوى الإسلامي والإنساني وعيًا جديدًا فريدًا، وقدمت للناس عربًا وعجمًا صورة فذة عبقرية للنضال من أجل الحرية، وصرنا نسمع ونشهد مقاطع بالصوت والصورة لأناس من كافة الأجناس يعربون عن معاني كنا نتمنى أن يسبق إليها مداد العلماء، معاني لها تعلق بالطموح الإنساني، ولها ارتباط بالقيم الإنسانية، بلْه الإسلامية، ولها صلة بالصراع المحتدم اليوم بين الأنام والأصنام، بين الإنسانية وأعدائها الجاثمين فوق تلال الأموال.

وعلى الرغم من كثرة ووفرة ما قيل وما سُطر وما سُجل وما دُوّن، لم يكن الخطاب -من جهة الكيف- على المستوى اللائق بالحدث، إلى حد أن الميدان الشرعي كان مجدبًا حتى من تكييف وتوصيف للنازلة على الوجه الصحيح، وتأويل تنزيل للأحكام بالشكل المريح، وفي الوقت الذي تجاوب فيه البسطاء الذين يحلو ويطيب لنا أن نصفهم بالدهماء -وربما الغثاء!- في الوقت الذي تجاوبوا فيه مع الحدث باستقامة واعتدال وتلقائية وعفوية، وجدنا أنصاف المشايخ وأشباه المتعلمين يموجون ويضطربون، ويتساءلون عن المشروعية مرة، وعن الشروط والضوابط مرة، وعن السياسة والإيالة مرات ومرات، وما ذاك إلا لأن الساحة الفكرية -بل والشرعية- مجدبة من خطاب فكريّ وشرعيّ مواكب للأحداث مناسب للمستجدات، هذا مع أن الحقائق الشرعية واضحة، فيا للعجب!

هذي دماء الشهداء فأين مداد العلماء؟

أين كتاباتنا التي تتجاوز المسائل السطحية والخلافات الجزئية؟ ذاهبة باتجاه الاستشراف العام والتام لمستقبل المسلمين والإسلام، وصاعدة صوب التنظير والتأطير لمشروع حضاريٍ كبير، يرث المدنية والحضارة ويبقى للخلق شعلة ومنارة، أين الفكر الصاعد الواعد الذي يستند إلى محكم الكتاب، ويغوص في المسائل الكبرى التي تلاعبت بها الفلسفات المشرقة منها والمغربة، حتى غدت خرقًا كلامية أبلاها كثرة الأخذ والرد والجذب والشد؟ أين رؤيتنا التي يجب أن ننطلق منها في كل اتجاه انطلاقة واحدة، لا تختلف ولو تعددت الطرق، ولا تتقاطع ولو تفرقت السبل، ولا يفوتها الانسجام التام والاتساق العام مهما شرقت أو غربت؟ كم كتابًا وضعناه في نظرية المعرفة من وجهة نظر إسلامية؟ وما الذي أنتجناه انطلاقًا من معطيات القرآن في علم الأناسة وعلوم الاجتماع؟ وهل نحن -أمة القرآن- نمتلك اليوم نظرية متماسكة في التربية والتعليم؟ وهل لدينا تصور قرآني وشرعي لقواعد إدارة الصراع؟ أم هل لدينا القدرة على التعامل مع السنن الإلهية بربطها بالأحداث ربطًا صحيحًا يحل المعضلات الفكرية والأزمات النفسية التي تواجه الجيل؟ ومن منا قام بدراسية استقرائية استقصائية للثورات لمعرفة سبل التثوير وأدوات التغيير؟

هلا تعلمت الآيبة من الذاهبة؟

على مدى التاريخ الإنساني كانت الفكرة تسبق الحركة، ففي عصرنا الحديث لم تتحرك أوروبا صوب التحرر ولم تنطلق انطلاقتها الكبرى، حتى كان أمثال توماس الإكويني ودانتي وبترارك والإنسانيين في الميدان الفكري، وأمثال جاليليو وكوبرنيكس وروجر بيكون في الميدان العلمي، وأمثال مارتن لوثر وكلفن وأتباعهما في ميدان الإصلاح الديني، لم تتحرك ولم تنطلق حتى كان هؤلاء الأفذاذ وأمثالهم يسكبون في طريق الإنسانية مدادًا شديد الاشتعال، أنار الطريق وأحدث البريق وألهب الحريق، وألهم الأجيال على مدى قرون متطاولة وعلمها كيف تنتزع حريتها وترسي دعائم حضارتها، ولم تهب رياح التغيير بالثورتين الأمريكية والفرنسية حتى كان الوقود الفكري قد استوى على يد المفكرين الكبار: روسو ومنتسكيو وفولتير، فكان المداد أبكر في تدفقه من الدماء، وكان العلماء أسبق في عطائهم من الشهداء.

أين نحن من رصيدنا التاريخي؟

قبل أن تنطلق الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا، فاتحة وهادية، وهادمة وبانية؟ قبل أن تسيل الدماء في الميادين، كان القرآن يتلى على الناس على مكث، وكانت الأفكار والتصورات تنبت وتنمو إلى جانب الحقائق الشرعية والعقدية، وكان الجيل قد استلهم من آي القرآن استشرافًا عاليًا، وفهمًا راقيا، وعلمًا وافيًا، وعقيدة باعثة، وهمة تلامس الثريّا، لذلك لم ترتبك مسيرته ولم تتبعثر خطاه ولم يتلعثم مع الأحداث التي توالت في تجدد مستمر، حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نهض هذا الجيل بلا معوقات فكرية ولا تشوهات نفسية، فأقام الدولة، وأمضى العدالة فيها على أسس شرعية، واندفع بقرآنه في البشرية اندفاع عصارة الحياة في الشجرة الجرداء، ووضع أسس العلم والحضارة للأجيال التي تلته، التي مضت من بعده بهذه الأسس تبني وتشيد في كل ميادين العلم والعمل، فكم نحن بحاجة إلى وثبة فكرية علمية! تتخلص من قيود التقليد العقيم وأغلال القولبة البليدة، وتنطلق بنا للأمام، وتنطلق خلفها التضحيات، فتعتدل المسيرة وينضبط المسار، ويتحقق لنا وبنا موعود الحق الذي لا يخلف الميعاد، والله المستعان.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان