سرادق عزاء للسنوار من الخليج إلى المحيط
لو أُتيح لأبناء آدم ممن حكمت الأقدار عليهم، أن يعيشوا في هذه البقعة المنكوبة من خريطة العالم، والمتعارف عليها باسم الوطن العربي.. لو أتيح لهم التعبير عن مشاعرهم لحظة استشهاد يحيى السنوار، لأقاموا سرادق عزاء ممتدًا من الخليج إلى المحيط للرجل الكبير.
لكن “لو” كما جاء في الحديث النبوي تفتح عمل الشيطان، وفي المثل الشعبي المصري يقال: “لو حرف مُعلَّق في الجو” دلالة على الاستحالة، الأمر الذي يتسق مع وظيفة الحرف لغويًا من حيث كونه حرف شرط، يُستعمل في حال الامتناع لعدم الإمكان.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالمنشقون عن إدارة بايدن وكشف الوجه الخفي للنظام الأمريكي!
نهاية إسرائيل.. بين إقالة غالانت وفوز ترامب
فوز غورباتشوف الأمريكي
في ذلك يقول شاعرنا نزار قباني بأسلوبه السهل الممتنع، وفي كلمات تتطابق كليًا مع واقع الحال العربي الراهن والبائس: “لو أن القدس لها شفة/ لاختنقت في فمها الصلواتْ/ لو أن.. وما تجدي لو أن؟/ ونحن نسافر في المأساة”.
أيًا ما يكن، فإن هنالك “أكثر من لو” حالت دون أن يُعبِّر العرب أو قل الأكثرية منهم عن مشاعرهم إزاء استشهاد السنوار، على أرض الواقع، فعلى المستوى الشعبي ما من مظاهرات أو أي مظاهر احتجاجية بحجم الحدث الجلل، أو بقيمة الرجل الذي مرّغ أنف الصهاينة في تراب غزة، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، من العام الماضي.
ورسميًا لا بيانات استنكار للجريمة الإسرائيلية، من جامعة الدول العربية التي يتحدث أمينها العام عن أسعار “السندوتشات” العالمية، وليس هناك حتى تصريح “مبستر” من العواصم العربية الوازنة، لنعي المناضل الذي انتصر لأمته إذ جعل أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، نكتةً دوليةً استلقى الأحرار في كل مكان، على أقفائهم “جمع قفا” وهم يضحكون عليها.
ومع ما هو معلوم بالضرورة من غلق الساحات والشوارع والميادين، في بلادنا بالمجنزرات والأسلاك الشائكة، لم يجد الرأي العام العربي إلا وسائل التواصل على الشبكة العنكبوتية، متنفسًا للتعبير عن فوران القلوب والوجدان، في اللحظة الاستثنائية التي اختلطت فيها مشاعر الحزن المرير بالفخر العظيم.
بطولة استثنائية في زمن بلا أبطال
في محض ساعات أو ربما دقائق، تحوَّل السنوار إلى ملحمة حماسة، وغدا اختزالًا للبطولة في زمن نَدُر فيه الأبطال، وأصبحت العصا التي قذف بها مُسيَّرة العدو، إذ كان يجلس إلى أريكته ملثمًا بالكوفية الفلسطينية، جريحًا بعد شجاعته في منازلة عسكر الصهاينة -كما اعترف الإعلام العبري- ذات إيحاءات أسطورية ميثولوجية رآها العالم في كل مكان.
نعم هي عصا، مجرد قطعة خشبية لكنها في لحظة تاريخية فرّقت بين الحق والباطل، وأيضًا أرَّخت للقضية الفلسطينية منذ النكبة حتى اللحظة الراهنة، واختزلها اختزالًا غير مخل في كونها قضية شعب يواجه بما تيسر وحتى رمقه الأخير، احتلالًا استيطانيًا إباديَّ النزعة، ومدججًا بترسانة سلاح يزوده بها الغرب المتواطئ والشريك، وسط صمت عربي رسمي، إما تواطؤًا وعمالةً وإما ضعفًا وتخاذلًا.
والمفارقة أن هذا الاختزال التأريخي “الجامع المانع” كان السنوار قد سبق أن جسّده في روايته التي كتبها خلف القضبان “الشوك والقرنفل”، إذ يقول في التقديم: “هذه ليست قصتي، وليست قصة شخص بعينه رغم أن جميع أحداثها حقيقية، وكل حدث منها أو مجموعة أحداث، تخص هذا الفلسطيني أو ذاك، وهي أحداث عشتها أو سمعت عنها، من أفواه مَنْ عاشوها على أرض فلسطين الحبيبة”.
كذلك كان الرجل في حياته واستشهاده اختزالًا للحكاية، فإذا بحروف كنية اسمه السبعة تستحيل مرادفًا صادقًا للبطولة في أعظم تجلياتها وأعز مظاهرها وأكرم مآثرها.
في أرماقه الأخيرة، لم يكن السنوار يدرك بطبيعة الحال أن “كاميرات” الصهاينة تسجل، غير أنه بغير علم بما سيكون، توخى صادقًا ومتسقًا مع ذاته، أن يتحدى جلاديه.
كأنه في لحظة الحق، أراد أن يقول للاحتلال: “لن تستريح مني وإن قتلتني، سألاحقك في كوابيسك”، ومن حسن الطالع أن العدو كان غبيًا فبثَّ المشهد راغبًا في توثيق انتصاره أو بالأحرى جريمته، فإذا به يوثق بطولةً لا تخص السنوار وحده، وإنما تشمل شعبه بأسره.
كان بث “الفيلم” تحطيمًا لسردية إسرائيل، بشأن اختباء الشهيد في نفق، أو باستخدامه المدنيين دروعًا بشرية.
الرجل الستيني الجريح الذي طوّح عصا خشبية قبل ثوانٍ من ارتقائه شهيدًا، حفر في ذاكرة النضال لا الفلسطينية والعربية فحسب، بل ذاكرة الإنسانية بأسرها، مشهدًا جديرًا بأن ينحني الشرفاء جميعهم له استعظامًا.
والمثير من قبل ومن بعد، في المشهد الختامي، أن بطولته جمعت ما بين البطولة العسكرية والنفسية والأخلاقية، كما يُصنِّفها الدكتور شوقي ضيف في كتابه الرشيق “البطولة في الشعر العربي”.
من حيث البطولة العسكرية وما يتصل بها من استبسال في القتال، فليس أشرف من مقاتل يواجه مجردًا آلة عسكرية متوحشة، وحين يُدرك أنه يشرف على الموت، يلقي ما بقي بين يديه؛ آخر أسلحته، محض عصا لن تغني شيئًا في الواقع، لكنها رمزيًا تعني الكثير تعزيزًا للفكرة الأخلاقية المعنوية.
أما المظهر النفسي للبطولة، فيقوم على الجلد أمام الشدائد، والحلم لدى وقوعها رضاءً بالقضاء والقدر، وهنا لا بد من إشارة إلى 23 عامًا قضاها الرجل في أسر العدو، وهي كفيلة بكسر أقوى الرجال، لكنها لم تنل من عزيمته وبأسه، فيما تقوم البطولة في شقها الأخلاقي على صيانة الشرف والوفاء بالكلمة، وفي هذه لا حاجة إلى إسهاب فالواقع الذي رأيناه رأي العين يكفي ويزيد.
القتيل حين يهزم قاتله
وبعدُ.. هل انتصرت إسرائيل إذن حين قتلت السنوار؟
الإجابة القاطعة أن الرجل الذي اجترح معجزة “طوفان الأقصى”، ودوّخ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، انتصر في لحظات احتضاره، وانتصر بعد رحيله، وكان انتصاره ذاك لشخصه ومبادئه معًا.
يقول الحسن البصري: “النفاق هو اختلاف القول والعمل، واختلاف السر والعلن، والمدخل والمخرج، وأصل النفاق والذي بُني عليه هو الكذب”.
في مشهد الاستشهاد يؤكد السنوار أنه عاش وقضى نحبه، متسقًا قوله وعمله وسره وعلانيته ومُدخله ومخرجه، ولم يكن “ذا وجهين” إذ نادى “حي على الجهاد”، ثم وقف في الصف الأول من المواجهة.
من هنا لم يكن غريبًا أن يكون الحزن عليه مريرًا، والفخر به كبيرًا، في ضمير الشعوب العربية، وإن ابتلع قاطنو قصور الحكم ألسنتهم، فامتنعوا حتى عن رثائه، لأنه على الأرجح قد انتصر عليهم، كما انتصر على الصهاينة.