الرجل الذي أحببته بعد استشهاده فارسًا مغوارًا

صورة أرشيفية (2019) للشهيد يحيى السنوار (الفرنسية)

إذا لم تخني الذاكرة، فإنني لم أسجل اسم القائد الشهيد يحيى السنوار، ولا مرة، فيما كتبته من مقالات هنا، وما دونته من منشورات على صفحتي بموقع فيسبوك، أو في أحاديث شفهية مع آخرين.

هذا لم يكن يعني تجاهل السنوار، أو التقليل من شأنه، أو معاداته، إنما لأنني كنت أكتب عن المقاومة إجمالًا، دون تخصيص فصائل معينة منها، أو شخصيات قيادية فيها.

فالخطب جلل، والتقسيم والتفضيل والتركيز على هذا القيادي أو ذاك الكادر لا يروق لي، فنحن أمام مرحلة إبادة عظمى يخوضها في الواجهة الصهيوني، بينما الفاعل الأصلي هو الأمريكي والغربي الصليبي، ولهذا يجب أن يكون الدعم والتبجيل للمقاومة مهما كانت أطرافها وفصائلها وتوجهاتها، وللمقاومين مهما كانت أسماؤهم ودرجاتهم داخل فصائلهم.

والمقاومة لا تعني عندي الانتماء السياسي والعقائدي والمذهبي والطائفي، بل أي فصيل أو جماعة مقاومة لها مكانة مُقدَّرة حتى لو كانت متواضعة عدديًّا وقدراتها محدودة وعملياتها قليلة، وكذلك العنصر المقاوم هو بطل له مكانته السامية حتى لو كان في صفوف خلفية، أو يقوم بأدوار لوجستية، فهو نذر نفسه دفاعًا عن وطنه وحقوقه المشروعة ورفضًا للمحتل محاولًا هزيمته والقضاء عليه إذا تمكن من ذلك.

القتال نيابة عن الأمة

لا حزب أو تيارا أو جماعة، مهما كان نشاطها السياسي، تسمو على أي حزب أو تيار أو جماعة مقاومة تقاتل نيابة عن الأمة، فالأولى، تعمل في نطاق آمن، أما الثانية فهي تنشط في ساحة الخطر، وتواجه أشرس احتلال يشهده التاريخ، احتلال يقوم على أساطير دينية وعقائد كراهية وإبادة للآخر.

هذا الاحتلال ومجرموه يكررون دومًا ما يدّعون أنه نصوص مقدسة تدعو إلى قتل الأغيار، خاصة إذا كانوا فلسطينيين أو عربًا، ويتقربون بذلك إلى الإله الذي يؤمنون به، والذي يحضهم على فعل ذلك.

أيّ إله هذا الذي يطالب المؤمنين به بأن يكونوا سفاحين سفاكين للدماء، هو إله صنعوه على قياسهم ودمويتهم ويصنعون مقولات إجرامية ينسبونها إليه للذبح والمجازر والاستعلاء والغرور والتسيد على الجميع في فلسطين وبلدان العرب.

وإذا واتتهم الفرصة يومًا فسيفعلون ذلك في العالم جميعه، وعلى رأسه الأمريكان والأوربيون وكل من يساندونهم ويشاركونهم قتلنا واستباحتنا واحتلال أراضينا.

ليس عندي مقاومة سنية، وأخرى شيعية، وثالثة حوثية، ولا مقاومة دينية عقائدية، ولا أخرى مدنية علمانية يمينية أو يسارية، ولا مقاومة فلسطينية ولبنانية ويمنية وعراقية وإيرانية، فكل من يحمل السلاح ضد الصهيوني لإيقاف عدوانه على المظلومين وتحرير أي أرض محتلة هو مقاوم شريف له كل الاحترام والتقدير.

قائمة الشرف والشهادة

ليس عندي فارق بين الشهداء بإذن الله؛ إسماعيل هنية، وحسن نصر الله، وفؤاد شكر، ويحيى السنوار، وصالح العاروري، وإبراهيم عقيل، وعباس الموسوي، وأحمد ياسين، وموسى الصدر، وعز الدين القسام.

كل هذه الأسماء العزيزة الشريفة هي سطر في قائمة شرف شهداء المقاومة منذ انطلقت ضد العدو، ولا فارق بينهم وبين الـ160 ألفًا الذين هم ضحايا غزة حتى اليوم بين شهيد ومفقود وجريح. وقائمة الضحايا مفتوحة، وتستقبل كل يوم أبطالًا جددًا، ومعهم شهداء لبنان من مقاومين ومدنيين، وكل شهداء المواجهة والتصدي للصهيوني النازي منذ إطلاق أول رصاصة وحتى الشهيد الأخير يوم النصر الأعظم والتحرير النهائي لفلسطين وكل أرض عربية محتلة أو مهددة من الصليبية الجديدة إن شاء الله.

 عقلية تنظيمية وعسكرية فذّة

ربما لأن السنوار قضى معظم حياته (عاش 62 عاما) بين سجون الصهيوني (22 عاما)، والعمل التنظيمي التنفيذي والعسكري المحاط بالسرية داخل حركة حماس (13 عاما منذ تحريره من سجون العدو في 2011)، ربما لذلك لم يكن قائدًا شعبيًّا ولا زعيمًا جماهيريًّا، وربما بطبيعة تركيبته الشخصية وعقليته العسكرية والتنظيمية الفذّة لم يكن يحبذ الظهور الجماهيري أو إلقاء الخطابات أو القرب من الإعلام.

هناك فارق بينه هنا وبين خالد مشعل، وإسماعيل هنية، وحسن نصر الله، فهم أكثر شعبية حيث يغلب عندهم الجانب السياسي والتواصل مع الجمهور، وهي عمومًا أدوار موزعة جيدًا يمارسها كل قيادي في تنظيم مقاوم.

ففي حماس لم نعرف عن قائدها العسكري محمد الضيف إلا القليل لأنه متفرغ لبناء القوة العسكرية والأمنية للحركة، كذلك كان فؤاد شكر، وإبراهيم عقيل، وقبلهم عماد مغنية، في حزب الله.

هؤلاء القادة ليسوا شعبويين، ولا نكتشف عقولهم الخارقة إلا بعد استشهادهم، وغالبًا يكون ذلك بالخيانة والاختراق أحيانًا، كما حصل في الضربات الصهيونية لاغتيال نصر الله وهنية ورفاقهم.

خلود وشعبية تاريخية

التضحيات الهائلة لغزة، والتنكيل والقتل في الضفة، واستهداف جنوب لبنان والحُديدة في اليمن ومناطق في سوريا، هذه التضحيات التي تقدمها المقاومات والشعوب طوال عام كامل من الطوفان، وقد دخلنا العام الثاني منه، تجعلني أتعجل ضرورة إيقاف هذا التوحش، وتلك الإبادة الفظيعة، وهذه المحارق الشنيعة، وأقول: لماذا فعلها السنوار وليس له ظهير عربي وإسلامي؟

نعم، السنوار قام بعمل تاريخي في 7 أكتوبر سيكون مجالًا للدراسة في الأكاديميات العسكرية بالعالم حيث زلزل الصهيوني، كما لم يحدث طوال احتلاله لفلسطين، لكن العقل يتساءل: هل كانوا يتحسبون لليوم التالي لعمليتهم البطولية التي أصابت الصهيوأمريكي بالسعار؟

ربما لذلك لم أكن مهتمًّا بالتركيز على السنوار، وإنما الدفاع عن كيان المقاومة، ثم يكون استشهاد الفارس المغوار، وبالشكل والتفاصيل التي خرجت من عند العدو نفسه، ربما ردًّا على التفكير والتساؤلات بشأن العملية الجريئة.

هي ميتة موثقة للتاريخ، وتشهد بأنه البطل الذي يهزم عدوه وهو حيّ، وخلال موته، وبعد رحيله.

طلب الشهادة بصدق، وتحققت له على نحو لم تتحقق به لقادة وزعماء تاريخيين، كما تفوق عليهم في الشعبية التي حصدها خلال ساعات.

حقًّا، أحببت هذا الرجل وأُعجبت به أكثر بعد استشهاده مرفوع الرأس.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان