بلينكن يعود إلى المنطقة.. ما الجديد؟
تأتي زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المنطقة هذه المرة في إطار جولة قد تكون الأهم منذ بدء العدوان على غزة، إذ تحمل هذه الزيارة -الحادية عشرة له إلى المنطقة- أبعادًا سياسية وأمنية بالغة الحساسية، ليس فقط بالنسبة لإسرائيل، بل تمتد لتشمل السلطة الفلسطينية، غزة، والدول العربية. يسعى بلينكن هذه المرة لوضع اللمسات الأخيرة على ترتيبات تتعلق بمستقبل غزة، خاصة في أعقاب ما تعتبره إسرائيل “نجاحًا” بعد اغتيال رئيس حركة حماس يحيى السنوار.
تتمحور خطة بلينكن حول إعادة إقناع بعض الدول العربية بإنشاء قوة أمنية تتولى إدارة قطاع غزة، على أن تعمل تحت إشراف إسرائيلي مباشر. تأتي هذه الجهود في سياق مساعي أمريكا لإنهاء الحرب وضمان أمن إسرائيل، في وقت يسعى فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يقترب من انتهاء ولايته، لتحقيق اختراق سياسي كبير يتمثل في إنهاء الحرب وتحرير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.
دول عربية تحفظت على إدارة غزة بعد الحرب
وفي إطار تلك الجهود، كان بلينكن قد عرض سابقًا على عدد من الدول العربية، خاصة تلك التي ترتبط بعلاقات تطبيع قوية مع إسرائيل، المشاركة في إدارة غزة، إلا أن العديد من هذه الدول تريثت في اتخاذ موقف نهائي، منتظرة حسم المعركة. وفي المقابل، أبدت بعض الدول استعدادها للمساهمة، شرط أن يكون للسلطة الفلسطينية دور في هذه القوات.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلماذا تقتحم الشعوب القصور الرئاسية؟
هل بدأ سقوط الطغاة وانتصار إرادة الشعوب من دمشق!
الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
غير أن السلطة الفلسطينية تبدو بعيدة عن هذه الحسابات، إذ يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفض أي دور لها في إدارة قطاع غزة. ويرجع هذا التعنت إلى اتهامات متكررة للسلطة بتسهيل عمل المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وفشلها في منع العمليات الفدائية التي أسفرت عن مقتل عدد من الإسرائيليين في مدن مثل تل أبيب.
واشنطن تسعى لوضع النقاط على الحروف بعد استشهاد السنوار
الزيارة تأتي في لحظة حاسمة، إذ يسعى بلينكن إلى وضع “النقاط على الحروف” بعد أن اعتقدت إسرائيل والولايات المتحدة أن الصورة بدأت تتضح باغتيال السنوار، الذي كان يُعتبر العائق الأكبر أمام إتمام صفقة تحرير الأسرى. بعد رحيله، ترى تل أبيب وواشنطن أن الفرصة سانحة لتحقيق أهدافهما، خاصة فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة، الذي يبدو أنه لن يكون تحت إدارة فلسطينية بأي حال من الأحوال.
في هذه الأثناء، يبدو أن التصعيد في شمال غزة، وبالأخص في منطقة جباليا، هو جزء من استراتيجية ممنهجة، وضعها نتنياهو وقيادات جيش الاحتلال بهدف إخلاء المنطقة من سكانها، ودفعهم نحو مناطق الوسط والجنوب من القطاع. ويُرجح أن الخطة تشمل تحويل شمال غزة إلى منطقة أمنية عازلة تفصل القطاع عن مستوطنات الجنوب، مع فرض رقابة مشددة وحصار خانق على السكان، لضمان السيطرة على ما يدخل إلى غزة، ومنع تهريب الأسلحة، والتحكم الصارم في وصول المساعدات الإنسانية.
المقلق في هذا السيناريو أن هذه المخططات تُناقش وتُنفذ دون أي دور فاعل للدول العربية، حيث يُرسم مستقبل الفلسطينيين على طاولات القرار في الولايات المتحدة وإسرائيل، بعيدًا عن أي تشاور مع دول المنطقة أو مراعاة لحقوق الشعب الفلسطيني. هذا التجاهل يعكس استمرار العقلية الاستعمارية التي اعتادت، عبر التاريخ، تجاهل حقوق الشعوب المحلية، والتقليل من إنسانيتها، والتحكم في مصيرها دون اعتبار لإرادتها أو مصالحها.
المحتل يعيش وهم الانتصار والمقاومة لم تنكسر
السيناريوهات التي يضعها الاحتلال، والذي لا يزال يعيش في وهم الحلم والانتصار، تنبع بلا شك من غرور وثقة مفرطة بأن المقاومة انتهت باغتيال يحيى السنوار. ومع ذلك، ما نشهده من تصعيد متواصل من قِبل المقاومة في غزة، خاصة بعد مقتل العقيد إحسان دقسة، قائد الوحدة 401 المسؤولة عن العمليات في جباليا، يؤكد أن هذه الخطط ليست سوى أوهام قابلة للفشل. المقاومة لم تنكسر، ولن تختفي كما اختفت المنازل التي دُمرت والخيام التي أُحرقت بأهلها.
ما يهدد هذه المخططات بالفشل أيضًا هو تصاعد دعوات اليمين المتطرف، بقيادة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، إلى إعادة استيطان غزة وتحويلها إلى مستوطنات يهودية بعد طرد سكانها الفلسطينيين. هذه الدعوات تلقى رفضًا عربيًا قاطعًا، حيث ترفض الدول العربية فكرة التهجير القسري للسكان الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، لم يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن أي رؤية واضحة أو مفصلة لما سيكون عليه الوضع في غزة بعد الحرب، مكتفيًا بتكرار هدفه المعلن منذ عام: هزيمة المقاومة وتحرير الأسرى.
هذا الغموض في رؤية نتنياهو، إلى جانب تصاعد قوة المقاومة، يجعل من الصعب تنفيذ أي من هذه السيناريوهات بنجاح. فالواقع على الأرض يُظهر أن المقاومة مصممة على الاستمرار في مواجهة الاحتلال، وأن محاولات فرض حلول قسرية، سواء بالاستيطان أو الحصار، ستواجه عقبات كبيرة في ظل الرفض الدولي والعربي المتزايد لهذه السياسات.
لا شك أن انتصار غزة، الذي تجسد في صمود المقاومة وثبات أهلها، يحمل أبعادًا تتجاوز حدود المنطقة وحساباتها السياسية. فهذا الصمود لا يقتصر على كسر شوكة الاحتلال الإسرائيلي، بل يستهدف أيضًا تقويض التحالفات التي تدعمه، وعلى رأسها الهيمنة الأمريكية. إن ثبات غزة هو تحدٍ واضح للنظام الدولي الذي يدعم الصهيونية في فرض سيطرتها.
المقاومة لم يعد أمامها سوى خيار واحد، وهو مواصلة المواجهة حتى النهاية. المهمة التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 لن تتوقف حتى تتحقق مطالبها. هذه المعركة لم تعد فقط معركة الفلسطينيين، بل هي معركة ستمتد آثارها إلى أبعد مما يتوقعه المحتل وحلفاؤه.
المعطيات تدلل على أن هذه الحرب لن تنتهي كما تأمل الولايات المتحدة وإسرائيل. فلا تزال الأيام حبلى بالمفاجآت، تلك التي قد تتكشف في أي لحظة، مما قد يعيد تشكيل المشهد بشكل غير متوقع تمامًا. فالتطورات الأخيرة، مثل محاولة اغتيال نتنياهو واختراق تحصيناته الأمنية، تذكّرنا بأن الوضع قد يتغير بسرعة وبطرق تتجاوز توقعات المحللين. هذه الديناميات تؤكد أن الصراع لم يصل بعد إلى نهايته.