فحيح في الإعلام.. الحيّات تسعى قبل أن يلقي عصاه!

حين ألقى نبي الله موسى عصاه في حضرة فرعون وكبار السحرة، تحولت بأمر إلهي إلى حية تسعى، لتلقف كل ما قدَّمه سحرة فرعون من خداع وخفة يد، لكن حين ألقى يحيى السنوار -الذي استشهد قبل أسبوع- عصاه ليدفع تلصص المسيَّرة الإسرائيلية عليه، لم تتحول عصاه إلى حية لكنها بأمر إلهي أيضًا لقفت ما صنعته الدعاية الصهيونية وأذيالها العربية خلال عام كامل عن الرجل الذي صعد إلى موقع القيادة في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تحت القصف والنار، بعد اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران قبل أسابيع.
الظهور الأول والأخير
لم يظهر يحيى السنوار الذي قضى اثنين وعشرين عامًا من حياته في سجون الاحتلال الإسرائيلي علنًا منذ قامت فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 باجتياز السياج الحدودي بين قطاع غزة والكيان الصهيوني، والهجوم على المستعمرات الإسرائيلية المتاخمة للقطاع المعروفة بـ”مستوطنات غلاف غزة”.
عام كامل ولا أحد يعرف أين يحيى السنوار الذي تَعُده دوائر الأمن الإسرائيلي المسؤول الأول عن التخطيط لهجوم المقاومة الفلسطينية على السياج الحدودي فيما عُرف بـ”طوفان الأقصى”.
اقرأ أيضا
list of 4 items“ماركات” تحت المجهر: من يصنع الثراء؟ ومن يبيعه؟
نهاية الإخوان!!
الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ المنشاوي في سوهاج
عام كامل من استهداف القادة والصحفيين في منازلهم، ومن تحديد دقيق لأهداف بشرية وأبنية، ومن تحذيرات أحيانًا لسكان منزل بإخلائه تمهيدًا لقصفه، ولم يكن هو من بينهم أبدًا.
لم يبث السنوار رسائل مسجلة مثل “أبو عبيدة” المتحدث باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، ولم يبث رسائل على الهواء مباشرة تفضح جرائم الإبادة الجماعية وتدمير غزة مثلما فعل الصحفي وائل الدحدوح، ولم يصرخ أمام شاشات الفضائيات مثلما فعل عشرات النازحين أمام سيارات البث المباشر ليعبّروا عن خذلان العالم لهم، ولم يحلل تحركات المقاومة مثلما فعل اللواء الأردني فايز الدويري.
اختزل السنوار هذا كله في الظهور الأول الذي شاءت السماء أن يكون الأخير، بصورة تحمل عمق إيمانه وصدق نيته ونقاء إخلاصه.
الصورة التي أرادوها
عام كامل من الغياب الإعلامي، ويجيء الظهور الأول والأخير متلازمًا على غير ما توقعت إسرائيل وأرادت، فلم يكن الظهور لجثة مستخرجة من تحت الركام بعد اغتيال صاحبها بقصف قنبلة لها القدرة على تدمير الأنفاق، ولم تكن الصورة لأسير استسلم ورفع الراية البيضاء ووضع يديه مقيدتين خلف ظهره، ولم تكن الصورة لجريح غارق في دماه محاطًا بأطباء جيش العدو يمنون عليه بالعلاج لإنقاذه لا خوفًا على حياته ولكن خوفًا على كنز المعلومات التي يظنون وهمًا أنه سيفشيها لهم تحت الضغط أو التعذيب، ولم تكن الصورة لقائد هرب من ويلات الحرب وعبر حدود غزة فارًّا إلى مصر بحثًا عن ملاذ آمن وظهر في مؤتمر صحفي يتحدث عن وقف إطلاق النار.
تكفلت آلة الدعاية الإسرائيلية بترويج صورة ذهنية عن ما تصفه بأنه “مجرم حرب” مختبئ في الأنفاق الممتدة تحت قطاع غزة، يتنقل بأمان تحت الأرض بعيدًا عن البيوت المهدمة والطرقات المغلقة، والشوارع المهترئة.
فحيح في الإعلام
قد يبدو مفهومًا تلك الصورة التي تروجها إسرائيل عن السنوار بوصفه عدوًّا يناضل لتدميرها، لكن ما يبدو غير مفهوم تلك الجرأة وربما الوقاحة، التي أطلت بفجاجة عبر منصات وشاشات عربية تستكثر حتى وصف يحيى السنوار بالشهيد بعد الإعلان عن اغتياله بواسطة القوات الإسرائيلية، وتقدّم وصلات من الشماتة في موضع لا يليق به هذا.
عندما ألقى السنوار عصاه في مشهد الرحيل أعطى أذونًا للحيات أن تخرج من مكامنها وجحورها لنسمع بوضوح فحيحها، وهي تبث سمومها علنًا بعد أن كانت تبثها رويدًا رويدًا تحت القصف والركام في عبارة مارقة أو جملة مسروقة أو كلمة متسللة أو صورة عابرة، لتصب في مسار احتقار ما فعلته المقاومة بوصفه عملًا تخريبيًّا حال دون نجاح حل الدولتين.
دون ذرة خجل شاركت أبواق عربية في تصوير يحيى السنوار على أنه رجل مجنون ألقى بأهل غزة في خضم حرب لم يستعدوا لها ولم يحتاطوا بينما يعيش هو في مأمن متخفيًا في الهوامش بعيدًا عن متون النار.
كان تشويه السنوار وتسويق أنه مسؤول عن الدمار الذي لحق بغزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي هو عين التسليم بالرواية الإسرائيلية التي تبدأ بما جرى يوم السابع من أكتوبر، والتي تتجاهل ما قبله من سنوات الحصار والتقييد على القطاع منذ انسحاب إسرائيل منه عام 2005، كما تتجاهل أن سنوات من المفاوضات لم تؤد إلى شيء.
انتقادات كثيرة لم يُتح للسنوار أن يرد عليها في حياته، لكنه قام بتجميع الأسئلة على طريقة المؤتمرات الصحفية، وأجاب عنها دفعة واحدة قبل استشهاده.
الصورة الحقيقية
في منزل شبه مهدم بمخيم تل السلطان شرق مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، تكونت صورة المقاتل الشريف الذي لم يستسلم ولم يُلق سلاحه وتشبث بإرادة المقاومة حتى آخر أنفاسه، بعد أن بث جيش الاحتلال الإسرائيلي تصويرًا من كاميرا مسيَّرة تتبعت مقاتلًا اشتبك مع قوة إسرائيلية راجلة، ولجأ إلى بقايا منزل مهدم ليحصل على استراحة محارب.
على مقعد غير وثير جلس الملثم الذي اتضح لاحقًا أنه الرجل الذي تبحث عنه وفشلت في اقتفاء أثره، لتقتحم عليه المسيَّرة خلوته فيشتبك معها بما طالته يده السليمة فيلقي عصاه على مرأى من يمينه المصابة، وتكون اللقطة الأخيرة هي مشهد المقاوم البطل قبل أن تتكفل مدفعية الاحتلال المجرم بإنهاء حياة رجل وضعته خاتمته في مصاف الأساطير.
الصورة الحقيقية أن السنوار لم يُقتل بوشاية أو خيانة أو عبر إبلاغ من عملاء لكنه كان قتلًا بالصدفة، كما اعترف الجيش الغاصب، ورغم ملايين الدولارات التي أنفقها الاحتلال الإسرائيلي لشراء وتصنيع أجهزة التجسس والتنصت والتتبع فإنه لم يصل إلى مكانه قط، وبينما أشاعوا أنه تحت الأرض اتضح أنه فوق الأرض يتحرك بسلاحه كأصغر شاب في رجال المقاومة.
الرسائل
الصورة الختامية لحياة مناضل حقيقي تجسّد إرادة المقاومة في تحدي القدرات التكنولوجية لآلة الحرب الصهيونية في مقابل الأسلحة البدائية، وأن المقاومة ممكنة حتى لو كانت عصا في بقايا منزل مهدم بفعل فظائع قصف الاحتلال.
الصورة الختامية التي اعتقدت إسرائيل أنها صورة نصر وروجتها بدافع الفخر، تلقفها المناصرون للحق الفلسطيني في العالم كله بتعاطف وإعجاب يليق ببطل.
استشهاد السنوار في مرابط المجاهدين بعث برسائل كثيرة، بعضها رمزي وأكثرها معلن، سيتكفل بها المحللون وخبراء السياسة والاستراتيجيات، لكن سيظل المسكوت عنه في إعلامنا العربي هو أننا نحتاج إلى مقاومة “الأفاعي” التي تروج الرواية الإسرائيلية وتحاول نسجها بدأب، وهي تسعى بيننا منذ سنوات وحتى من قبل أن يلقي السنوار عصاه كبصقة في وجه الاحتلال.