أمريكا.. والصعود إلى الهاوية
(1) الانتخابات الرئاسية: مقامرة ورشاوى وأكاذيب
أيام معدودات تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتي تأتي في خضم حروب في الشرق الأوسط وأوروبا وبوادر صراع في آسيا.
أي متابع لمجريات هذه الانتخابات لابد أن تصيبه الحيرة والدهشة من كم الأكاذيب والاتهامات والإهانات المبتذلة التي يكيلها كل مرشح للآخر، وتتساءل الملايين كيف تختار أقوي دولة في العالم بين السيئ والأسواء: شخصية كامالا هاريس الباهتة وشخصية دونالد ترامب النرجسية!!، وكيف تظل أمريكا حبيسة حزبين لا ثالث لهما، لتتحول من الحكم الديمقراطي إلي حكم الأوليغارشيا الذى تنتقده في العلن وتطبقه في الخفاء، وكيف تم جر أهم حدث انتخابي عالمي إلي ساحة المراهنات، حيث حققت منصات المراهنات بالعملات المشفرة نموا كبير في الفترة الأخيرة بقيمة تقارب المليار دولار!!.
اقرأ أيضا
list of 4 items“ساعر” يحرض الأقليات في دول المنطقة
هل يصبح ترامب أكثر رشدا بعد سنوات الحكم والمعارضة؟
بين تونس ولبنان.. هل الديمقراطية جيدة للمقاومة والحرب؟
ومؤخرا ألغت قاضٍية فيدرالية في واشنطن، قرارا صادرا عن لجنة تداول السلع الآجلة الأمريكية بمنع شركة من السماح بالمراهنات على نتائج انتخابات الكونغرس المقررة في نوفمبر، ومهد ذلك الطريق أمام شرعية المراهنات على نتائج الانتخابات بشكل عام. ولقد كشف تحقيق أجرته “وول ستريت جورنال” عن وجود أربعة حسابات رئيسية على أحد منصات العملات المشفرة، قامت هذه الحسابات بضخ مبالغ ضخمة في رهانات لصالح فوز ترامب، هذه الحسابات أنشئت حديثا وتتبع نفس النمط مما يرجح أنها لمصدر واحد، وأدت هذه الرهانات الضخمة إلى ارتفاع احتمالات فوز ترامب في المنصة إلى 62%، مقابل 38% لهاريس، وهو تحول كبير مقارنة بالتعادل الذي كان سائدًا في بداية أكتوبر.
كما روج الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، الداعم لترامب، على منصة إكس التي يمتلكها لهذه المراهنات وأعتبرها أكثر مصداقية من استطلاعات الرأي التقليدية!.
ولقد حذر خبراء من أن هذه الرهانات قد تكون جزءًا من استراتيجية أوسع للتأثير على الرأي العام، وأنها تهديد مباشر للعملية الديمقراطية لكن هذه التحذيرات لم تعرقل عجلة الرهان ولم تكبح هوس الأمريكيين في المراهنة بأموالهم على الحصان الفائز بالبيت الأبيض.
كما قدم إيلون ماسك رشوة انتخابية ضخمة للغاية حيث أعلن عن جائزة يومية قيمتها مليون دولار حتي يوم الانتخابات في الخامس من نوفمبر المقبل تقدم لناخب مسجل، يتم اختياره عشوائيا بطريقة اليانصيب علي أن يكون موقعا على عريضة تؤكد دعمه لحرية التعبير والحق في حمل السلاح، وهي من أهداف ترامب المعلنة في حملته الانتخابية، بشرط أن يكون الناخب المحظوظ من الناخبين المسجلين في الولايات المتأرجحة بغرض كسبها لصالح ترامب، وهذه الرشوة الانتخابية تشبه ما يحدث في انتخابات العالم الثالث ولا تختلف عنها سوي في قيمتها الضخمة، وبالتأكيد فهناك عشرات الرشاوي يتم تقديمها من جماعات الضغط الداعمة لكل مرشح رئاسي في الخفاء.
والمخابرات الأمريكية بدعم من الإعلام الأمريكي تحاول الاستفادة من مسرحية الانتخابات المثيرة والجذابة عالميا لتحقيق أغراضها، فلقد صرح مسؤول بها رفض ذكر اسمه للصحافة أن روسيا وإيران والصين يحاولون إثارة البلبلة والانقسام بين الأمريكيين قبل الانتخابات الرئاسية، والمقصود من هذا الاتهام المريب للشك، ترهيب الرأي العام الأمريكي وتشويه صورة هذه الدول والتحفيز على كراهيتها وتأهيل الرأي العالم لما يحدث وسيحدث مع هذه الدول مستقبلا. وبذلك تكتمل صورة زيف الانتخابات الرئاسية الأمريكية: أثرياء أمريكا وجماعات الضغط ذات المصالح تستخدم أموالها ونفوذها للتأثير على الناخبين وكذلك الإعلام وجهاز المخابرات، وأيا كانت نتيجة الانتخابات فهي بالتأكيد لن تجعل أمريكا عظيمة مجددا.
(2) أمريكا تستخدم القوة لتخفي ضعفها
“القوة الحقيقية للدول تتمثل في القوة الاقتصادية والسكانية والحضارية، وأمريكا لم تعد تمتلك هذه القوة، فهي لم تعد تمثل مفهوم القوة الاقتصادية، بل هي اقتصاديا في حالة تبعية للعالم، العالم لم يعد في حاجة إلى امريكا، بل هي التي في حاجة إليه، ومن الناحية السكانية والحضارية فهي في حالة نزعة اختلافية تؤثر على انسجامها السكاني ، وحضاريا فلقد تخلت منذ زمن عن القيم الأخلاقية العالمية، وهذا ما يخيف أمريكا ويجعلها تكشر عن أنيابها وتستخدم قوتها العسكرية القاهرة لفرض هيمنة تعرف أنها لم تعد تمتلك مقوماتها الحقيقية”. المقتطف السابق من كتاب “بعد الإمبراطورية.. دراسة في تفسخ النظام الأمريكي” للمفكر الفرنسي “إيمانويل تود” (73 سنة) وهو من علماء الاجتماع الديموغرافي ولقد تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1976 في كتابه ” السقوط الأخير” كما يتنبأ الآن بهزيمة الغرب. ويتحدث تود في كتابه على أن أمريكا تثير الاضطرابات والقلاقل والحرب المزعومة على الإرهاب لتثبت للعالم أنه ما زال في حاجة لقوتها العسكرية، رغم عدم جدوى هذه القوة وخطورتها على السلام والأمن العالميين. ويذكر “تود” أن التقارب الأوروبي الروسي هو أهم خطر يهدد الهيمنة الأمريكية، وربما يفسر ذلك ضلوع الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية ومحاولة إطالة عمرها وإنهاك الاقتصاد الأوروبي والروسي معا في هذه الحرب. كما يتحدث “تود” على ان العالم المعاصر لم يعد بحاجة لحماية أمريكا بقدر ما يخشى سطوة قوتها، وأن الحروب القادمة لن تكون على المدي الطويل في صالح الهيمنة الأمريكية، ومهما استعرضت قوتها فهذا يعجل بضياع هيبتها ويزيد من عزلتها، وليس أمام أمريكا لتفادي هذا المصير سوى أن تعيد النظر في سلوكها الدولي وأن تقبل أن تكون أمة بين الأمم وليس فوق الأمم. العالم، حسب الكاتب، يحتاج إلى أمريكا العاقلة الرشيدة وليس أمريكا التي تنفخ في بوق الحرب وتصعيد التوتر.
(3) لماذا تؤجل أمريكا حل القضية الفلسطينية؟
لا يشكك “إيمانويل تود” في أن امريكا أمة كبرى لكنه يرى اندثارها كقطب أوحد، ويرى أن نشاطها العسكري المبالغ فيه، هو محاولة لإخفاء انهيارها، ويجد أنها أخطأت خطأ إستراتيجيا، عندما اعتقدت أن إبقاء العالم في حالة توتر واضطراب، والحيلولة دون حل عادل للقضية الفلسطينية، سوف يؤكد حاجة العالم للقوة الأمريكية، على العكس لقد أكد هذا للعالم خطورة القوة الأمريكية الجامحة، وجعل العالم العربي والإسلامي ضدها. أفكار تود تفسر لنا موقف إدارة بايدن من الحرب في غزة ولبنان، أمريكا تستطيع إيقاف هذه الحرب خلال 24 ساعة إن توافرت الإرادة السياسية، لكنها تريد الإبقاء على المنطقة فوق صفيح ساخن متصورة أنها بذلك تضرب عصافيرعدة بحجر واحد، لكن في النهاية سينقلب السحر علي الساحر ولن تصل أمريكا لمرادها ، بل ستصعد وحدها إلى الهاوية وتجر معها حليفتها المدللة إسرائيل.