القرضاوي والشيعة.. مرحلة الافتراق والمواجهة

الشيخ يوسف القرضاوي

ظلت علاقة القرضاوي مع الشيعة في إطار التقريب والتقارب معهم، إلى حدود عام 2004م تقريبا، وبداية من هذا العام، بدأت الأحداث السياسية تأخذ منحنى آخر، سيغير طبيعة العلاقة فيما بعد، فقد كان احتلال الأمريكان للعراق، وما تلاه من أحداث، بداية فصل أخير فيها.

فقد كان الشارع العربي والإسلامي السني، متعاطفا بشكل كبير مع المقاومة اللبنانية، ولم يفكر أحد في طرح قضية انتسابها للشيعة، إلا الاتجاه السلفي الذي كان يرفض التعاطف معها لهذه العلة، ويحذر منها، ولم يعرف في تاريخ الجامع الأزهر أن رفعت صور لأشخاص سوى جمال عبد الناصر، وحسن نصر الله.

لكن العنوان الشيعي في مخيال المواطن العربي المسلم السني، تحول إلى عنوان آخر، وكانت أحداث العراق أحد أهم أسباب تغيره، وقد تم عقد جمعية عمومية للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سنة 2006م، حضرها جمع غفير من رموز السنة في العراق، وكان على رأسهم الشيخ الحارث الضاري رئيس هيئة علماء العراق.

البداية من الجمعية العمومية للاتحاد

وفي إحدى استراحات الجلسات، نادتني إحدى عضوات الاتحاد من مصر، وهي شخصية معروفة بالعمل الخيري، وقالت: نريد أن يتحدث الشيخ الضاري عما يحدث في العراق، قلت لها: ليس له كلمة مجدولة في أعمال الجمعية، لكننا يمكن أن نعطيه كلمة في استراحة، ولا ينهيها حتى حضور الأعضاء في القاعة، وبذلك يضمن إكمال كلمته في حضور الجميع، ولو قليلا من الوقت.

وبالفعل تم ذلك، وبعد أن استمع إلى كلمته بعض الحضور، وقبيل نهايتها كانت القاعة قد امتلأت، واعتلى منصتها الشيخ القرضاوي، والدكتور العوا، والشيخ التسخيري من إيران، وكانت هذه الجمعية قد تميزت بحضور خليجي وخاصة من السعودية كالشيخ سلمان العودة، وعدد آخر مهم، ولما فتح النقاش حول ما يجري في العراق من شيعة إيران والشيعة بوجه عام، وبخاصة مع المساجد في العراق، وقف رئيس الوقف السني في العراق أحمد عبد الغفور السامرائي وبدأ سرد أرقام وإحصاءات مساجد سنية جرى هدمها، أو الاستيلاء عليها.

عندئذ أصبحت أجواء النقاش ساخنة جدا، فقد كان أهل العراق موجوعين مما يحدث، وتكلم سلمان العودة أيضا، وثنى عليه الشيخ عبد الرحمن المحمود من قطر، ثم فوجئ الحضور بالقرضاوي يتدخل في الحديث، ليقول: أنا متفق مع الإخوة الشاكين من دور إيران والشيعة في العراق، وهي أمور تحتاج لتوضيح ومصارحة، لا تطييب خواطر بكلام نظري، وعلى الإخوة في إيران القيام بذلك.

ثم نزل القرضاوي إلى القاهرة في صيف هذا العام، وفي لقاء في نقابة الصحفيين قال كلاما أكثر صراحة في هذا الملف، فأراد العوا وكان أمينا عاما للاتحاد وقتها، محاولة لملمة الموضوع، بعيدا عن الصحافة، فقال عن كلمة الشيخ: لعلها زلة لسان. وكتبت وقتها مقالا أبين أنها ليست زلة لسان، بل هو توجه جديد للقرضاوي، سواء أعلن ذلك بتفصيل أو ألمح إليه تلميحا.

تقرير عن التشيع في إفريقيا

في هذه الأثناء، دخل سلمان العودة في الجمعية العمومية للاتحاد المشار إليها آنفا: مجلس أمناء الاتحاد، فاقترح إجراء عمل بحثي استقصائي خارج الاتحاد، على أن تعرض نتائجه عليه، عن التشيع في إفريقيا، وقام فريق بحثي برصد نشاط نشر التشيع في قارة إفريقيا، وكانت تعرض على القرضاوي نتائج البحث أولا بأول، ولم يكن غائبا عنه بعض المبالغات في التقرير، وقد صارحني بهذا، حين قال لي: يا عصام، أنت من أوسيم، وهي بلدتي التابعة لمحافظة الجيزة، وقد كان القرضاوي يتمتع بذاكرة حديدية، فيعرف من أي محافظة أنت، ومن أي قرية، وعند ورود اسم قريتك في مسألة أو موقف، يربط بين الموقف والمعلومة وشخصك، فقال لي: إن التقرير المكتوب، يخبرنا أن هناك بؤرة تشيع في بلدك، فقلت له: هذا غير صحيح، ربما تعاطف من شخصين مع حزب الله، قال لي: إن التقرير فيه مبالغات، لا أنكر ذلك، لكن في مجمله هناك معلومات دقيقة، ومعلومات تشم منها المبالغة.

أكذوبة تشيع ابن القرضاوي

في هذه الأثناء بدأ أصدقاء القرضاوي بالأمس من الشيعة، فهم أن هناك موقفا جديدا للقرضاوي، بادئ في التشكل، وإن لم يعلن عنه، وبدل أن يناقشوه ويطرحوا ما لديهم من ردود على ما لديه من شكاوى وشكوك، ارتكبوا أخطاء لم تكن عاقلة، فقد أشاع أحد رموز الشيعة في لبنان أن سبب هجوم القرضاوي عليهم هو أنهم نجحوا في جذب أحد أبنائه إلى التشيع، وأنه تشيع بالفعل، وضجت مواقع الأخبار، بهذه الأكذوبة، وقد كانت كفيلة باستمرار الشيخ في موقفه الجديد، لا العودة عنه، وقد كان ابنه المقصود الشاعر المعروف الأستاذ عبد الرحمن القرضاوي، مستغلين قصيدة شعرية قالها في المقاومة اللبنانية، لا علاقة لها بموقف مذهبي، بل كانت مبنية على مقاومة العدو الصهيوني.

تشكل اقتناعات جديدة للقرضاوي

وبدأت تتشكل اقتناعات جديدة لدى القرضاوي، ومن حوله من الدائرة المقربة علميا، في معظم المؤسسات التي يرأسها، وبدأت دائرة اقتراب التيار المحسوب على السلفية في الاتحاد تزداد قربا، وعملا في هذا الملف، وبدأت الهوة تتسع بين القرضاوي والتيار الشيعي بوجه عام، والرموز الموجودة في الاتحاد، حتى صرح في محاضرة له في موقع إسلام أون لاين، بموقفه الجديد، ومراجعة مواقفه تاريخيا في التقريب مع الشيعة.

ثم جاءت الجمعية العمومية للاتحاد سنة 2010م، وقد شعر التسخيري بأن الموجة عالية ضد التوجه الشيعي في الاتحاد، وضد شخصه، وقد كان العرف المعمول به في الاتحاد أن الرئيس يختار نوابه، ويجري التصويت على الرئيس ثم نوابه، نائبا نائبا، ولذا بادر التسخيري بعدم اختياره، وتم اختيار شخصية أخرى، وبعدها مباشرة استقالت من الاتحاد المجموعة الأبرز في ملف التقريب مع الشيعة، وعلى رأسهم مع حفظ الألقاب: محمد سليم العوا، وفهمي هويدي، وهيثم الخياط. وانسحب فيما بعد من الطرف الشيعي بقية الموجودين.

الربيع العربي ومواقف أكثر افتراقا

ثم جاءت مرحلة الربيع العربي، وقد كان من قبل من أسباب انبهار عدد من الشباب الإسلامي بالثورة الإيرانية، أنهم قاموا بثورة لم يقم بها السنة، فجاءت هذه المرحلة بثورات لم تكن مذهبية، لكنها أخذت بريق الثورة الإيرانية عند الشباب المتدين، لثورات أخرى، وجاءت الثورة السورية، لتضع العلاقة في اختبار جديد، وفصول جديدة، كان القرضاوي في القلب منها، بحكم رمزيته الكبيرة، وبحكم موقفه من الربيع العربي، وقد كان أكبر رمز علمي سانده، بداية من الثورة المصرية، وندائه للجماهير بالنزول يوم موقعة الجمل، ثم دخول الثورة السورية في المرحلة العسكرية، بحكم ما قام به النظام السوري. وقد انحاز حزب الله وإيران إلى بشار ضد الثورة السورية الشعبية السلمية، التي تحولت إلى عسكرة بسبب ممارسات النظام.

لو جمعنا الأحداث منذ احتلال الأمريكان للعراق، إلى أحداث الثورة السورية، وما بينهما من أحداث أخرى، كلها وضعت أمام عقل وفكر القرضاوي، رمز الأمة وضميرها الحي، لوجدنا أن كل ذلك جعله يتخذ قرارا بإنهاء موقفه من التقريب، ويتجه إلى المفارقة والمواجهة، فبعد أن كتب رسالته: “مبادئ في الحوار والتقريب”، كتب رسالة صغيرة من عدة صفحات، يبين فيها موقفه الجديد مجملا، جعل عنوانها: “كلمات صريحة في التقريب ين السنة والشيعة”، أعلن فيها موقفه الأخير مجملا، تاركا التفصيل لكتاب أكبر، يقع في مجلد كبير، وهو ما يجعله يدخل في مرحلة أخيرة في العلاقة، هي مرحلة: الرأي العلمي والخبرة التاريخية في موقفه من الشيعة. وهو ما نفصله في مقالنا القادم إن شاء الله، لنختم به ملف القرضاوي والشيعة، بحسب شهادتي واطلاعي على مواقفه الكتابية والتعبيرية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان