السنوار.. لماذا صار أيقونة للبطولة بين عشية وضحاها؟

السنوار قضى 23 عامامفي سجون إسرائيل ولم يضعف وواصل المقاومة
السنوار (رويترز)

ولد ليكون أيقونة للبطولة، تتناقلها الأجيال في زمن غابت فيه البطولات عن عالمنا العربي إلا من المقاومة في فلسطين ولبنان، وبعض البقع في بلاد العرب.

كأنه قادم من زمن الأساطير الخارقة، ليتجسد واقعا مُذهلا، شديد الإبهار للدنيا كلها. إنه الشهيد البطل يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، المطلوب الأول لأمريكا ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ لكونه المُخطط والقائد لعملية طوفان الأقصى (7 /10/ 2024)، التي مرغت سمعة الكيان الصهيوني، وأهالت التراب على “هيبته” البراقة والمرعبة، منذ قيام دولته عام 1948. هو الرجل الذي فشلت أعتى “أجهزة المخابرات” في الوصول إليه زعما بأنه مُختبئ في نفق تحت الأرض. مع أن هذا -لو حدث- لا ينال منه، فالأنفاق من أهم حصون المقاومة الدفاعية، في قطاع غزة الأبي المُحاصر منذ عام 2005، بينما كان يُدير الحرب في القطاع، ضد جيش الصهاينة، من قلب الميدان، يتنقل من ساحة قتال، إلى أخرى، قائدا بين جنوده، ومُقاتلا معهم.

موفور الكرامة والعزة حتى الرمق الأخير

لماذا صار السنوار “بطلا مُتوجا” بين عشية وضحاها عقب تسرب صور للساعات الأخيرة من حياته؟ كيف تحول بهذه السرعة الفائقة إلى بطل غير عادي، يشغل مليارات البشر مُسلمين وغيرهم، عربا وأجانب، ويحوز تعاطفهم وإعجابهم الشديد به؟

ظل السنوار يقاتل مجموعة كبيرة من جنود الاحتلال (حسب رواية وصور الجيش الإسرائيلي)، ويشتبك معهم وحيدا من العاشرة صباحا، حتى الرابعة عصرا ليقوم الجنود بقصفه مع “البناية” التي يتحصن بها، بمدفع دبابة، فانهارت ركاما لتصعد روحه الطاهرة إلى بارئها.

قبل استشهاده أطلق الجيش الصهيوني مُسيّرة صغيرة اقتحمت المبنى لتصوير الكائنين به، فما كان من “السنوار” إلا إمساك عصاه بيده اليسرى في تلقائية، ليدفع بها المُسيّرة، في ثبات وشجاعة منقطعة النظير. وذلك بينما كان جالسا على كرسيه، بملابس القتال، مُلثما، مثخنا بالجراح في جسده، فاقدا ليده اليمني، التي ضمدها بخرقة وسلك كهربائي. وهو تجسيد تلقائي لإرادة صلبة نادرة، حتى وهو في الرمق الأخير. مع أن المُسيّرة لو اقتحمت المكان، على مجموعة مقاتلين لأثارت الرعب في نفوسهم. لكن السنوار كان على العكس تماما، ليموت محاربا مناضلا شريفا موفور الكرامة والعزة.

عسقلان وحياة المخيم الصعبة

ولد يحيى إبراهيم حسن السنوار (19 /10/ 1962) في غزة، وعاش منذ ميلاده في خان يونس بمخيم للاجئين، نزحت إليه أسرته عقب نكبة عام 1948، من مدينة مجدل أو عسقلان حاليا.

تخرج من قسم الدراسات العربية في الجامعة الإسلامية بغزة. حياة الملاجئ التي عاشها السنوار صعبة، وفيها معاناة مستمرة، من مضايقات الاحتلال، وغاراته، وطائراته التي لا تكُفّ عن التحليق والصخب المُهين المُذل. خلال مسيرته أمضى 24 عاما في السجون الإسرائيلية قبل أن يتم تحريره ضمن صفقة وفاء الأحرار عام 2011 (مبادلة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، مقابل 1027 أسيرا فلسطينيا).

على ما يبدو، فإن النواة لبطولته بدأت التشكل في المُخيم، وربما اكتمل نموها في السجون الإسرائيلية ذاتها.

طاقة جبارة للتمرد

بحسب علماء الاجتماع والفلاسفة، فـ”البطولة” تنال مكانة رفيعة من الحب الجارف والاحترام والتبجيل لدى الشعوب؛ ليسكن “الأبطال” في ذاكرة الأمم، وليكونوا مصدرا للإلهام والفخر، ومادة ثرية للبناء وتربية الأفراد نفسيا، وقدوة ومثالا دافعا لهم. و”البطل” يتميز بقدرة فائقة على الإتيان بأعمال، لا يستطيع غيره إنجازها. فلدى البطل طاقة جبارة كامنة للتمرد على الواقع المرير الذي يعيشه مع مجتمعه، والتغلب عليه، إلى حد التضحية بحياته من أجل تغييره. وفقا لتعريف الكاتبة والمترجمة المصرية الدكتورة نبيلة إبراهيم، فالبطل شخص محوري، ينمو من داخل نفسه.. يولد غريبا، أو هكذا يكون شعوره.. كأن الحياة كلها ترفضه، وسرعان ما يشق طريقه، مُتغلبا على الصعاب، ليحقق في النهاية هدفا يهفو إليه صانعا الصورة المكتملة للحياة التي يتمناها.

جدران عازلة عصية على الاختراق

بالعودة إلى “السنوار”، فهو -مثل الأبطال- شخص استثنائي، يتميز بالشجاعة والحزم، والاعتزاز بنفسه وكرامته.. يمتلك أخلاق الفرسان من شهامة وعزة وكرامة، وإباء وشمم، يعصمه من الاستسلام في أحلك الظروف، وأصعب المعارك والمواجهات.

نشأ في واقع سيئ، فتمرد عليه داخل نفسه، وقرر تغييره. تفتّح وعيه على القهر الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. حاصرته مبكرا الدعاية الرائجة بأن الجيش الإسرائيلي لا يُقهر، وأن الكيان الصهيوني يمتلك أقوى أجهزة الاستخبارات عالميا، وأن الجدران العازلة حول القطاع وغيره عصية على الاختراق، لما تحويه من أحدث مخترعات للتنصت، وما يمتلكه الكيان الغاصب من طائرات، ومسيّرات للتجسس، وتصوير كل شاردة وواردة في القطاع.

طوفان هادر من التفاعل

بدلا من التسليم بالأمر الواقع، والركون إلى هذه الدعاية التي يؤكدها واقع شديد القسوة، أوقع “السنوار” ضربة قوية لنظرية التفوق الإسرائيلي، جُندًا، وعُدةً، وعتادا، وتكنولوجيا فائقة. استنفر إمكاناته الشخصية، وذكاءه المتقد، ومخزونه المعرفي عن “دولة الاحتلال”، وجيشها ومخابراتها، وكيفية اختراق سياجاتها الأمنية.

حدد المواقع التي ستكون هدفا لضربات الطوفان في غلاف غزة، وجمع المعلومات عنها. رسم خطته العبقرية للطوفان، التي قتلت الغرور الصهيوني، وأذهلت العالم.

لم يكن “يحيى السنوار” ساعيا للبطولة، ولا أي مغنم. تسامى فوق المُغريات، مُلقنًا العدو الصهيوني درسا استراتيجيا، لم تعرفه الأكاديميات العسكرية. أراد أن يموت مقاتلا، مناضلا، مقاوما، شهيدا، وحقق الله له ما أراد. جلبت ساعاته الأخيرة طوفانا هادرا من تعاطف وتفاعل البشر في كل مكان. فالناس تواقون دوما للتعرف على البطولات والأبطال، ولو كانوا أبطالا من ورق في السينما. فما بالنا وقد تجسدت أمامهم في بطل من لحم ودم، فكان أن توجته الدنيا بأسرها أيقونة فريدة للبطولة.

رحم الله الشهيد السنوار، والشهداء جميعا، ولينصر الله المقاومين على الكيان الصهيوني.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان