الفن خارج المعركة

لا فن يحكي عن المعركة المشتعلة في غزة منذ أكثر من عام.. إلا القليل!
هي المرة الأولى التي نحارب فيها عدونا التاريخي، فلا نسمع غناءً أو نشاهد أفلامًا أو نقرأ قصصًا تعبّر عما يحدث، تشحذ الهمم وتروي بعيون مبدعة تفاصيل المأساة.
ما بين الفن والسياسة علاقة لا تنفصل
الفن يزدهر ويتألق كلما زادت أوجاع البشر، يحكي للناس ويتضامن معهم، ويلتقط بعينه ما لا تلمحه الأخبار، يدافع عن الحق في الحياة، وينحاز إلى الحق بطريقته، ويدين الصمت والتخاذل في اللحظة نفسها التي يستنكر فيها جرائم الإبادة واستباحة حياة الإنسان، يفعل كل هذا بالصورة السينمائية والكلمة والموسيقى والغناء.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن يُشعل النيران في الشرق الأوسط؟ قراءة في مصادر الصراع
علمانية الطوائف السورية
طلقات حاخام: القومية نزعة شريرة والصهيونية “أخلاقية”
منذ بداية العدوان خفت صوت الإبداع وتوارى، وكأن شيئًا لا يحدث!
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يكن ممكنًا تصديق أن يصمت صوت المبدعين عن حدث كبير كهذا، ونحن الذين اعتدنا أن يكون صوتهم حاضرًا في قلب المعارك دائمًا.
أم كلثوم وسيد درويش في قلب المعركة
قبل نحو شهر من الآن، صنعت حلقة قدَّمها برنامج “الدحيح” الشهيرعن سيدة الغناء أم كلثوم جدلًا واسعًا في مصر.
استطاع البرنامج، وهو يتحدث عن فنانة استثنائية بكل المعاني، أن يتحرك في المساحات التي تمس روح المشاهد وتؤثر فيه.
روى “الدحيح” قصة دعم كوكب الشرق للمجهود الحربي في مصر بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967.
اشتبك مع ما يؤمن به الجمهور وما يتوقعه من المبدعين، وصنع حالة المقارنة بين دور الفن عندما يقاوم ويبث في الناس رفض الهزيمة، واللحظة التي نعيشها الآن، تلك التي غاب فيها الفن وتضاءل دوره حتى كاد يتلاشى.
في كتابه البديع “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” يروي كريم جمال ما اختارته أم كلثوم لنفسها بعد الهزيمة الوطنية الكبرى في عام 1967، وينقل عنها في حوار أجرته مع مجلة “أكتوبر” في عام 1971 قولها “أبَيت أن أستسلم بعد النكسة، لم يكن أمامي إلا أحد أمرين: فإما أن التزم الصمت وأقبع في ركن من الانهيار النفسي، وإما أن أمضي بسلاحي، وهو صوتي، أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثاني”.
في الإيمان بأن الفن جزء من المعركة، وبأن الصوت الملهم سلاح لا ينبغي أن يستقر أو يهدأ، تأكيد لما يمكن أن يقدمه المبدع دعمًا لقضيته ودفاعًا عنها.
في نهاية عام 1967، لم تكن أم كلثوم تغني في باريس كما اعتادت دائمًا، لم تكن حفلتها التي أثارت ضجة عالمية وقتها مجرد واحدة من عشرات الحفلات التي شاركت فيها على مدى تاريخها الفني الثري، بل كانت جزءًا من معركة تحرير الأرض، ومحاولة منها لكي تروي الحكاية؛ حكاية وطنها، وإسهامًا طبيعيًّا ونبيلًا في أن تؤثر بفنها وغنائها، وأن تنقل إلى العالم الصامت حكاية البلد الذي خرجت منه وحملت همومه.
بحفلات في كل مكان في الأرض أشهرت سيدة الغناء السلاح، وشاركت في مقاومة المحتل، ليس بالمال الذي كانت تتبرع به للمعركة فقط، بل بالدعم وبرفض الهزيمة وحشد الهمم والطاقات ليوم الانتصار.
قبل أم كلثوم بسنوات، كان فنان الشعب سيد درويش يحكي ويروي في أغانيه ما يحدث!
مع انطلاق الثورة المصرية في عام 1919، اختار فنان مبدع خرج من بين الناس أن يكون صوتًا لهم، وأن يحيي معهم الآمال في الاستقلال والتحرر، حملت أغانيه وألحانه ما منح النضال الشعبي زادًا وقوة، وعبَّر بتفاعل مبدع عظيم عن تفاصيل الثورة الشعبية، وانحاز بفنه الرائع مع رفيق دربه بديع خيري إلى مطالب الشعب بعودة الزعيم سعد زغلول الذي نفاه الاحتلال.
في سلاح درويش ما ألهم المصريين ودفعهم دفعًا لمواصلة النضال.
من كلمات صدرت عن الزعيم الوطني مصطفى كامل في أحد خطاباته، اختار سيد درويش الأغنية التي أضحت حتى يومنا هذا نشيدًا وطنيًّا يردده الملايين “بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي”، وبقدرته على الوصول إلى القلوب انحاز لرفض التنكيل بزعيم الثورة سعد زغلول، وهو ينشد أغنيته البسيطة العميقة “يا بلح زغلول، يا روح بلادك ليه طال بعادك”.
بعد هزيمة 1967، اختار عبد الحليم حافظ ألا يبدأ أي حفلة يشارك فيها إلا بأغنيته الشهيرة التي كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي “أحلف بسماها وبترابها”.
ما بين الهزيمة وحتى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ترنم حليم بعشرات الأغنيات التي كتبها ولحنها أشهر المبدعين، وهو يهتف مع الناس “يا بلدنا لا تنامي”.
في كل هذه النماذج وغيرها، يبدو فهم المبدعين لدورهم في أوقات المعارك الكبرى مختلفًا ومميزًا، ويبدو الفن خطوة على طريق رفض الهزيمة والتمسك بالنصر، ويظهر الفنان والمبدع جزءًا أصيلًا من شعبه مدافعًا عن حقه في الحياة.
سر الغياب الكبير
من السياسة تبدأ الإجابة عن سر الغياب الصعب.
في الأوطان التي تقاوم، يختار الإبداع أن ينضم إلى صفوف المقاومين إلا إذا قيدته الأنظمة.
اختارت السياسة أن تتفاعل مع المعارك من موقع المشاهد أو موقع الوسيط، فاختار الإبداع أن يظل على الحياد.
هذا ما حدث ببساطة ودون حسابات معقدة.
وجهت الأنظمة الرسمية العربية الفن والإبداع بطريقتها حتى لو جاء ذلك دون قصد منها.
وصلت الرسالة إلى المبدعين، فقرروا البقاء في المربع الأسلم، والنأي عن غبار المعارك.
السياسة ترسم الطريق وتمهده للمقاومة أو الاستسلام.
هكذا غاب الفن والأدب عن الرواية المظلمة التي بدأت منذ أكثر من عام.
تلك حقيقة مفزعة!
الفن لا يخضع لسلطة
في الاستسلام لما تفرضه السياسات الرسمية هزيمة مهينة للإبداع.
فلا يمكن أن يخضع الفن إلا لضميره، ولا ينبغي أن ينهزم المبدع أمام التخاذل الرسمي، فدورهما الحقيقي هو صناعة حالة التمرد على الخضوع، والمناخ المناسب لمقاومة اليأس.
خاصم المبدعون العرب التاريخ عندما ابتعدوا بإرادتهم عن المعركة الوجودية الدائرة منذ عام، وأعلنوا القطيعة مع كل الوجوه المبدعة الصادقة التي مرت على تاريخنا فبعثت في أوصال النضال روحًا جديدة.
بقليل من التمرد على السياسات الرسمية وتسلطها على المشهد، يمكن أن يكون الفن هو صوت الناس وراوي الحكاية وكاتب القصة.
لا ينبغي أن يخضع الفن للسلطة ولا للسلطان، فتلك كلمة للتاريخ.
أسوأ ما يحدث في المعارك الفاصلة أن يتفاعل الفن والإبداع مع الأحداث من مقاعد المتفرجين.
ربما تصلح الحكاية بهذه الطريقة مع الأنظمة التي اعتادت “الفرجة” من بعيد.
أما الإبداع فله رواية أخرى.