قمة “بريكس”.. قفزات في السياسة و”تسليح الدولار”!
نجح لقاء مجموعة “بريكس” بمدينة قازان الروسية، الأسبوع الماضي، في الظهور محفلًا سياسيًّا كبيرًا، وإن لم يتخط القفزة الاقتصادية الأولى التي بدأها منذ تأسيسه عام 2006.
عكس اجتماع “بريكس” صوت الغاضبين من هيمنة واشنطن المنفردة للعالم، دون أن يضع أساسًا متينًا لإزاحة القبضة الأمريكية على الاقتصاد الدولي، وسيطرة عملتها ومؤسساتها المالية على مقدَّرات الدول، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفقًا لمعاهدة “برايتون وودز ” التي جعلت الدولار سيد العملات، ونظامها المالي الوعاء الأعظم لتدفق الأموال بين البنوك والشعوب.
اقرأ أيضا
list of 4 items25 يناير.. الحرية والمرأة والفن
غزة الأمل بين المتشائمين ومحترفي الصفقات!
في غزة قادة حرب ورجال تفاوض
تضاعفت عضوية “بريكس” بعد انضمام مصر والإمارات وإيران، العام الماضي، إلى مجموعة المؤسسين من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، بينما غابت السعودية التي لم توافق بعد على قبول العضوية والأرجنتين التي رفضتها، وتنتظر 13 دولة أخرى البت في طلبات القبول.
عبَّرت اللقاءات الحميمية بين قادة 36 دولة عن صوت 45% من سكان العالم، يمثلون دول الجنوب المنتجين لنحو 35% من الاقتصاد العالمي، ممن فاض بهم الكيل من الهيمنة الأمريكية على قراراتهم ومقدَّراتهم.
أبدى القادة مخاوفهم من تأجيج واشنطن حروبًا شاملة في الشرق الأوسط وأوروبا، بما يوفر لها طاقة تشغيل مستمرة لشركات السلاح، ويعيد إليها صناعات أخرجتها من أسواقها، وسيرها في اتجاه معاكس لعولمة ابتدعتها في ثمانينيات القرن الماضي.
كلام في السياسة
هيمنت السياسة على مناقشات “بريكس” خاصة المتعلقة بالحرب بين روسيا وأوكرانيا وضرب اليمن وتجهيز تل أبيب لهجوم عسكري ضخم ضد طهران، دون أن تتحول الأفكار إلى مبادرات أو أفعال ملموسة لوقف الحرب.
أنهى قادة “بريكس” نزاعات خطيرة بين الصين والهند، ورسَّخوا تحالفًا بين روسيا وإيران، وتعاونًا استراتيجيًّا بين الصين وروسيا. استفاد القادة العرب من تحويل “بريكس” إلى منصة لتذكير العالم بالعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، والتنديد بالمعايير المزدوجة للنظام الدولي، دون التطرق بسوء إلى العدو الصهيوني مباشرة أو من يدعمه بالمال والسلاح.
رغم دعوة الرئيس الروسي بوتين لإقامة نظام عالمي جديد، وانشاء بورصة لتداول الحبوب والنفط والغاز، ومطالبة الرئيس الفنزويلي بتأسيس سلة عملات جديدة، تستخدم العملات الوطنية في التعاملات بين الأعضاء وشركائهم الدوليين، فإن ما دار من أعمال بقمة “بريكس” لم يؤثر في أسواق المال.
لم تتحرك أي مؤشرات بالبورصات العالمية متأثرة بما دار في “بريكس” على مدار أسبوع. حتى أسعار الذهب التي تشهد ارتفاعًا قياسيًّا بدأت تتجه إلى الهبوط، لوجود تهديدات لقوة الدولار، مرتبطة بحالة عدم اليقين بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومخاوف لدى المؤسسات المالية من استخدام واشنطن قوتها المفرطة لفرض عقوبات جديدة على روسيا وحلفائها بالحرب الأوكرانية، في وقت يتصاعد فيه العجز بالموازنة الأمريكية.
قنابل موقوتة
أتى أغلب ممثلي “بريكس” إلى روسيا وبيوتهم عورة، تُظهر سوءات سياسية واقتصادية عميقة، تدفع أغلب الدول الغاضبة إلى أحضان واشنطن سرًّا وعلانية. لم تتخلص دول “بريكس” من مشكلاتها البينية المزمنة، ولم تنجح في التحول إلى تحالف واضح، يمكّنها من مواجهة واشنطن التي “تسلح الدولار” فتحوَّل من عملة ورقية بدون غطاء ذهبي إلى سيف مسلط على رقاب الدول والشركات والأفراد.
تدير الولايات المتحدة السياسة بقوة الاقتصاد بما تملكه من ثروات طبيعية وبشرية وتكنولوجية هائلة، وقدرات عسكرية غير مسبوقة، لتجبر الآخرين على الدخول في تحالفات شريرة، تعكس رؤية عنصرية استعلائية استعمارية للجنس الأبيض ومسيحية صهيونية متطرفة، تدفع بالعالم إلى حافة الهاوية، وحالة حرب دائمة.
في المقابل، نجد مجموعة “بريكس” التي تبنت أهدافًا اقتصادية وإنسانية منذ نشأتها، ترفع من صوت السياسة، فتحولت إلى منتدى متعدد الأصوات، يعكس “أجندة” خاصة بكل دولة وتحزبات داخلية، تصنع قنابل قابلة للانفجار، قد تُخرج التكتل بسرعة من عباءة التاريخ، على غرار ما لاقته مجموعة “عدم الانحياز” وكثير من الكيانات التي وُلدت وانفضت دون إنجاز يُذكر.
“بريكس” تحمي الدولار!
أظهرت مناقشات مجلس مديري صندوق النقد الدولي، التي جرت بالتزامن مع اجتماعات “بريكس”، أن الدولار متجذر بعمق في البنية التحتية المالية الدولية، بدعم من اقتصادات دول المجموعة، خاصة الصين التي تتعامل مع أكبر شريكين تجاريين -أوروبا والولايات المتحدة- بالدولار واليورو، وتستثمر أكثر من تريليون دولار في سندات الخزانة الأمريكية، إضافة إلى مئات المليارات في أسهم صناديق المعاشات والشركات الأمريكية.
فالصين التي تملك أقوى ثاني اقتصاد و30% من الإنتاج الصناعي العالمي، تُجري جُل تبادلاتها التجارية مع العالم بالدولار واليورو، وتدين الدول النامية بنحو تريليون دولار. رغم اتفاق الصين مع الإمارات والسعودية على تبادل صفقات النفط مقابل اليوان، فإنها لم تستطع المساس باتفاق يُلزم دول الخليج باستخدام الدولار في صفقات النفط والغاز، فيما يُعرف باستراتيجية “البترودولار”.
رهنت الدول عملاتها واسترداد عوائدها بالدولار، بما وضعها وكبار المنتجين للنفط والغاز -مثل روسيا وإيران- والمستوردين الصينيين تحت قبضة البنك الفيدرالي الأمريكي الذي يدير أنابيب تدفق الأموال بنظام “سويفت” عبر واشنطن، بما يبقيها تحت السيطرة الأمريكية على مدار الساعة، ورهينة للمصادرة في أي وقت.
رغم النفوذ الاقتصادي المتزايد للصين، فإن تدويل اليوان يواجه عقبات كثيرة، تجعله غير مرشح ليحل محل الدولار على المدى الطويل. مع توقع ارتفاع استخدام اليوان في المبادلات الدولية، من 2.3% كعملة احتياط دولية إلى 5.6% على مدى 10 سنوات، فإن حيازته ستتراجع خلال عامَي 2025 و2026، متأثرًا بالأزمات الجيوسياسية والتعثر المالي وعدم شفافية أسواق الاستثمار بالأصول المالية الصينية.
يزيد الأمر سوءًا مع إدارة بيجين لليوان بطريقة معقدة، فوفقًا لبنك التسويات الدولية، تعتمد الصين حسابَي صرف لليوان أحدهما تجاري والآخر مقابل الدولار، فعندما يهبط الدولار يرتفع اليوان، بما يرفع من قيمة عملات شركائها الكبار في أوروبا والدول العربية والهند وجنوب آسيا والأمريكتين، ويخفض القدرة التنافسية للمنتجات الصينية، ويقرن مستقبل اليوان بقوة الدولار والسياسات العقابية التي تفرضها واشنطن على البضائع والشركات الصينية.
عالم جديد
هناك أمل أن تتمكن “بريكس” من كسر حصار تفرضه واشنطن على اقتصاد دول الجنوب، يُبقي الدولار عمودًا فقريًّا لنظام عالمي ذي قطب واحد. فصندوق النقد الدولي يتوقع أن تسهم اقتصادات “بريكس” خلال السنوات الخمس المقبلة بدفع عجلة النمو العالمي وفقًا لمعيار القوى الشرائية للدول القوية مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل، بنسب تفوق إسهام مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، التي تضم الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان.
ستشارك الصين بنسبة 22% من إجمالي النمو عام 2029، بما يفوق إسهام الدول السبع، بينما الهند ستضيف 15%.
يتوقع ديفيد مارش، رئيس معهد السياسة الاقتصادية والنقدية التابع لصندوق النقد OMFIF، أن تنخفض حصة الدولار كعملة احتياطات عالمية من 60% حاليًّا إلى نحو 55% في غضون 10 سنوات، وإلى ما يراوح بين 40% و45% بحلول 2050.
المشكلة أن هذا الانخفاض سيأتي نتيجة طبيعة للانخفاض التدريجي في الأهمية النسبية للولايات المتحدة بالاقتصاد العالمي، مقابل نمو اليورو الذي يمثل 19.9% من عملات الاحتياط حاليًّا، والدولار الأسترالي والكندي والجنيه الإسترليني واليوان.
يبقى أن تقدّم مجموعة “بريكس” نظامًا جاذبًا يدعم دورها في خدمة الشعوب، وإيجاد عالم أكثر حرية ونزاهة وعدالة، والتخلص من الأنظمة الاستبدادية التي تهدر طاقات المجتمع، وتبدد ثرواته في مشروعات فاشلة وصراعات لا تنقطع.