المشروع الإمبريالي.. في البدء كان الاستيطان والإبادة

العلم الأمريكي في ذكرى الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية (غيتي)

شهدت القرون الخمسة الماضية بأوروبا قدرا هائلا من التحولات والتفاعلات التاريخية والدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتمثل معاهدة ويستفاليا (1648) مفصلا مهما في تاريخ الغرب والعالم، فقد أنهت حروب الثلاثين عاما الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، وآلت إلى صراع سياسي للسيطرة على دول أخرى، ودشنت ميلاد الدولة القومية (الدولة-الأمة) وسيادتها على إقليمها، وحصّنتها ضد تدخلات الخارج.

كانت ويستفاليا وما تلاها من سلم أوروبي، نقطة انطلاق مهمة لحركة الاستعمار والاستيطان الأوروبي في مختلف أنحاء المعمورة، فقد ترافقت تلك المرحلة بعوامل طاردة للسكان من اضطراب سياسي واضطهاد ديني ومجاعات ضربت أوروبا و”اكتشافات جغرافية” اتُّخذت ذريعة للاحتلال والنهب والإبادة.

كانت ويستفاليا لحظة انطلاق النظام الأوروبي المبكر، وبدء الهيمنة الغربية، وموجة الاستعمار والاستيطان والإبادة، وتواصلت على النحو التاريخي المعلوم. وواكبت تلك المرحلة نشوء منظومتها الفلسفية المادية ورؤيتها المعرفية الإمبريالية التي مهدت وأسست مفاهيم اجتياح العالم واستباحته واستعماره، وغدت جوهر النظام الدولي وهيمنة الغرب.

عمليات “ترانسفير”

اتخذ الصعود الأوروبي من أكذوبة “الاكتشافات الجغرافية”، ومبدأ الحرب العادلة، وعبء الرجل الأبيض، تكأة لتقنين الغزو والاحتلال، ومبررا لاحتلال قارات العالم وإبادة سكانها، وإقامة كيانات استيطانية أوروبية وراء البحار، وتقاسمت الإمبرياليات قارات العالم. وشهدت شعوب أوروبا والعالم عمليات “ترانسفير”، أي “التحويل” و”الترحيل”، إحدى أهم آليات المشروع الإمبريالي، وبموجبها جرى:

شحن السجناء والمشاغبين إلى المستعمرات وراء البحار وتحويلهم إلى مستوطنين. تحويل أقنان الأرض إلى بحارة وجنود أساطيل جيوش الاستعمار وموظفين بإدارة المستعمرات. اختطاف الأفارقة بعشرات الملايين واستعبادهم في مناجم الفحم ومزارع القطن وقصب السكر بجزر الكاريبي والجنوب الأمريكي. شحن الملايين من الهند وإندونيسيا إلى مستعمرات جنوب إفريقيا والكاريبي والإنديز، وتسخيرهم في الزراعة والمناجم. تسخير الناجين من الإبادة من شعوب أمريكا الجنوبية في مناجم الفضة التي أفنت معظمهم. سرقة كنوز ممالك الآزتيك والمايا، ونقلها إلى حواضر المتروبوليتان الأوروبي.

وقامت بموازاة المشروع الإمبريالي منظومة سياسية وتشريعية ودستورية لاستدامة المشروع الإمبريالي وخدمته، بما في ذلك: الديمقراطية التمثيلية داخليا ودبلوماسية البوارج الحربية خارجيا، فجاء الإصلاح الديمقراطي وتشريع الحقوق المدنية والمواطنة بالغرب ضرورة لتنظيم مجتمعات أوروبا وتجنيدها لخدمة المشروع الإمبريالي وتمدده، وزيادة موارده البشرية، فكان لا مناص من إنهاء نظام الإقطاع والأقنان لعجزه عن تلبية ذلك. واكتملت ركائز المشروع الغربي: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية.

قامت -إذَن- مشروعات استيطانية كبرى في الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا وإفريقيا وآسيا، وارتبط نجاحها وتضخمها بالقضاء على جماعات السكان الأصليين، حصارا واستغلالا وإبادة ومسخا. بل وانتقل مركز الثقل العالمي في القرن العشرين من قوى أوروبية استعمارية تقليدية، تعهدت مشروع الاستيطان والإبادة، إلى أكبر كيان استيطاني إمبريالي في التاريخ البشري.

الاستيطان التوراتي

في القرنين السادس عشر والسابع عشر، سيطر البيوريتان على برلمان ثورة أوليفر كرومويل (1599-1658) بإنجلترا. وبعد فتوى الإصلاحي البروتستانتي الكبير جون كالفن (1509-1564) بإباحة الربا، استقدم البيوريتان صرافين ومُقرضين يهود من هولندا إلى إنجلترا لتأسيس صرافة ومؤسسات إقراض.

رافق ذلك إحياء التوراة وأسفار العهد القديم في الحياة الدينية الأوروبية بتأثير “الإصلاح” البروتستانتي بحثا عن مرجعية دينية موازية للمرجعية الكاثوليكية، تلتها مرحلة “المبشرين الإيفانجيليين” في القرنين التاسع عشر والعشرين، الساعين لتنصير اليهود وإقرارهم بأن يسوع الناصري هو المسيح لأجل تحقيق نبوءات نهاية العالم، فروجوا للصهيونية، وتبنوا مشروع دولة اليهود في فلسطين، وربطوا هجرتهم إليها بنبوءات آخر الزمان وعودة المسيح (عليه السلام) ومعركة “أرمغدّون” المزعومة بين الخير والشر في “الأرض المقدسة”، يعقبها ألف عام من الحياة السعيدة (العقيدة الألفية)!

استعار الاستيطان الأوروبي سيرته ورحلته وديباجاته من قصص التوراة ورموزها وقيمها وجغرافيتها، واستمد المهاجرون البروتستانت رؤيتهم الكونية والأخلاقية من نصوصها، وتماهوا مع الروح العبرية، ورأوا خروجهم من أوروبا خروجا من أسر فرعون لبني إسرائيل بمصر التوراتية إلى “أرض الميعاد” في العالم الجديد!

إسرائيل الجديدة

وقد كتب بعض المستوطنين الأوائل عهدا على السفينة التي أقلتهم إلى أمريكا الشمالية، يشبه عهد الإله “يهوه” لبني إسرائيل، كما في “العهد القديم”، وأرادوا تأسيس “إسرائيل الجديدة” في العالم الجديد. انطلقت أيديولوجية الاستيطان التي أسست فكرة “أمريكا”، المعادل الإنجليزي لفكرة “إسرائيل الأسطورية”، بقوة دفع بروتستانتية عاتية تقوم على: احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، واستبدال تاريخ بتاريخ. وكل منها مشروع إبادة قائم بذاته.

تلك الإبادات الثلاث، ومبدأ الاحتلال والاستيطان والتوسع، إضافة إلى ركائز المشروع الغربي: الإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والفاشية، والمرجعية الاستيطانية الأمريكية، هي “القيم المشتركة” بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، التي يرددها الصهاينة بأمريكا والكيان الصهيوني لتبرير تحالفهما، والانحياز الفاضح إلى الكيان، وتزويده بترسانة العنف والإبادة، ودعمه اقتصاديا وحمايته سياسيا.

امتلأ خطاب المستوطنين البيض في أمريكا بتعبيرات “أرض الميعاد” و”ميثاق الرب” و”شعب الله المختار” و”الاستكشاف” وارتياد التخوم، والغزو وتبرير إبادة السكان الأصليين. ورافق ذلك اعتقاد بفرادة تاريخية ومباركة “إلهية” ومشيئة ربانية لتجربة الاستيطان، وأن أمريكا بتعبير الكتاب المقدس “مدينة على جبل” و”منارة بين الأمم”!

“يهوه” وحق الإبادة

لاحظ مؤرخون أن “الدين المدني” الأمريكي، دين “الدولة العميقة” ومؤسساتها العسكرية والقانونية والشُّرطية والعلاقة بالآخر، نشأ عن أيديولوجية المستوطنين “البيوريتان” الذين طُردوا من إنجلترا بعد انهيار ثورة كرومويل، مكرسا “يهوه”، إله بني إسرائيل في العهد القديم، بعنصريته وعنفه وتقنينه الإبادة هو “المرجع الأعلى”!

وهذا يفسر شراسة الدولة الأمريكية وعنفها وسلطويتها وعنصريتها وعدوانيتها وتطرفها. وقد أكد حاخام مهم، في كتاب عن تاريخ اليهود بأمريكا، أن الأمريكيين (البروتستانت البيض) “أكثر يهودية منا” لأنهم “تبنوا كل أفكارنا”، مقارنا بين “يهود الجسد أي أمريكا، ويهود الروح الذين هم نحن”!

يبرر الفيلسوف البريطاني بجامعة أكسفورد، ريتشارد سوينبورن، فكرة الذبح عند اليهود وفكرة التحريم القائمة على الذبح والحرق، ويرى أن ذبح الفلسطيني على يد اليهودي هو تكريم للفلسطيني. بل يرى أن واهب الحياة له الحق في استردادها هو وكل شعبه (اليهود) أي استرداد حياة هؤلاء، لذلك لا عتب على الإسرائيلي لقتله الفلسطيني، فهو يتصرف بناء على أمر واهب الحياة!

تمثل هذه المقولات وأمثالها تيارا كبيرا ضمن المشروع الإمبريالي. ويبرر سوينبورن (حق اليهود في) القتل على قاعدة التوحيد! مع أن اليهود في تاريخهم لم يكونوا موحدين، فالتوحيد لديهم أن “يهوه” إله اليهود وحدهم دون الناس، وهذا لا علاقة له بالتوحيد!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان