في التكيف مع الفجوة التقنية: دروس مستفادة من نموذج “العصا” و”المسيرة”

السنوار وقبل ألقى بعصاه في مواجهة المسيرة الإسرائيلية قبل استشهاده (رويترز)

في بداية الحديث عن الفجوة التقنية والتكيف معها، نجد أن قصة الشهيد يحيى السنوار تقدم لنا مفارقة بارزة تعكس كيف يمكن لشخصية قيادية أن تتحول من مجرد قائد عسكري إلى رمز عالمي يتجاوز حدوده الجغرافيا. لقد أصبح السنوار أسطورة تجسد الصمود والمقاومة، ليس فقط في السياق الفلسطيني أو العربي، بل امتدت رمزيته إلى مستويات أبعد، مشكلاً جزءاً من الميثولوجيا العالمية.

على سبيل المثال، تناولت بعض وسائل الإعلام اليابانية استشهاده من زاوية استحضار رمزية الساموراي في تراثهم، تلك الشخصيات التي جسّدت الشرف والتضحية في سبيل القيم والمبادئ.

هذه الصورة الملحمية التي صنعها السنوار تجاوزت كل التوقعات، بما في ذلك التغطيات الإسرائيلية التي، من حيث لا تحتسب، ساهمت في صنع هذه الأسطورة.

الإعلام الإسرائيلي، بأسلوبه في تناول السنوار وقصته، رسخ في الذاكرة الجماعية رمزية مماثلة لتلك التي ارتبطت بشخصيات تاريخية مثل (شي جيفارا)، الذي حوله اغتياله إلى رمز ملهم للنضال الحر والمقاومة في جميع أنحاء العالم، أو (عمر المختار)، الذي واجه الموت بشجاعة نادرة فداءً لشعبه ووطنه.

في هذا السياق، تكمن المفارقة: بينما يحاول الطرف المتفوق تكنولوجياً إخماد روح المقاومة بالسيطرة التقنية والهجمات المتطورة، تصنع الشخصيات ذات الإرادة الصلبة أساطير تتجاوز التقنية والقوة المادية.

ما بين العصا والطائرة المسيّرة ثمة تجسيد كبير للاختلاف بين الأسلحة التقليدية القديمة والقدرات العسكرية الأحدث تكنولوجياً وما تحمله في طياتها أكثر من مجرد فروقات في القدرات القتالية؛ إنها تعكس تناقضاً بين عالمين: أحدهما يعتمد على قوة الإرادة والتضحية والشجاعة منقطعة النظير، والآخر يتجسد في التعقيد التكنولوجي والتحكم عن بُعد.

العصا، هنا تمثل القوة الداخلية والإرادة الفردية التي لا تعتمد على التكنولوجيا بل تجسيد البساطة التي تمثل الرغبة في الصمود والتمسك بالعزيمة في مواجهة الصعاب، وهي وسيلة (بدائية) لكنها تحمل معنى أكبر من مجرد كونها أداة في يد إنسان يؤمن بقضيته ومشروعه.

على الجانب الآخر

أما الطائرة المسيّرة، على الجانب الآخر، هي أحد أعظم إنجازات التكنولوجيا العسكرية الأحدث مزودة بأنظمة متقدمة من الرؤية، التوجيه، والقدرة على تنفيذ عمليات هجومية دقيقة. إنها رمز للسيطرة والتفوق التكنولوجي والقدرة على الحسم من مسافات بعيدة دون المخاطرة المباشرة للجندي الذي يتحكم فيها. المسيّرة تملك قوة هجومية فائقة لطالما تضع خصومها في موقف ضعف لكنها تفتقر إلى القوة الأخلاقية أو الروحية التي قد تحملها العصا كرمز للصمود والإرادة. بينما الأخيرة رغم بساطتها وافتقارها للقوة المادية، تمثل مقاومة قد تكون غير فعالة من الناحية العسكرية لكنها قوية من الناحية المعنوية والرمزية.

إن هذا المشهد يدعونا إلى التأمل في أسئلة أكثر عمقاً حول ماهية القوة الحقيقية. فهل يمكن اختزال القوة في التكنولوجيا المتقدمة والتفوق العسكري فقط؟ أم أن هناك شكلاً آخر من القوة يتجلى في الإصرار، الإرادة، والتصميم الذي لا يعتمد على الوسائل المادية؟ قد تمنح التكنولوجيا ميزة كبيرة في ساحة المعركة، لكن التاريخ أثبت أن القوة الحقيقية لا تكمن دائماً في التفوق التكنولوجي فحسب، بل في القدرة على تحويل الظروف القاسية والتحديات الكبرى إلى فرص للصمود والتكيف.

إن الإصرار والإرادة من الأدوات النفسية والمعنوية، التي قد تكون أقل وضوحاً على المدى القصير لكنها قادرة على قلب موازين القوى على المدى الطويل. فالعديد من الشعوب والحركات التحررية عبر التاريخ واجهت خصوماً متفوقين تكنولوجياً وعسكرياً، لكنها استطاعت تحقيق الانتصار أو الصمود بفضل إرادتها الصلبة والتكتيكات غير التقليدية التي تتجاوز المفهوم التقليدي للقوة. وهناك كثير من الأمثلة على أن جماعات وحركات تحرر استطاعت التكيف مع تفوق خصومها التكنولوجي وقدمت العديد من الدروس حول كيفية تحويل الفجوة التقنية إلى فرصة للتفكير الإبداعي وتطوير استراتيجيات غير تقليدية. في هذه الحالة، يمكن أن تكون التكنولوجيا سلاحاً ذا حدين، فهي تمنح ميزة للطرف الذي يمتلكها، لكنها قد تجعله أيضاً أكثر اعتماداً على أدوات محددة وأقل مرونة في مواجهة تكتيكات غير تقليدية.

الاستسلام للقوة الغاشمة

التحدي الأكبر الذي يواجه الأطراف الأقل تجهيزاً تقنياً هو كيفية التصدي للتفوق التكنولوجي لخصومهم. هذا لا يعني الاستسلام أمام القوة الغاشمة، بل يعني التفكير بطرق إبداعية واستغلال الموارد المتاحة بأفضل شكل ممكن. فالقدرة على التخطيط الاستراتيجي المدروس هي مفتاح النجاح في مواجهة الفجوة التقنية. والتخطيط بهذا السياق يتطلب فهماً عميقاً للفوارق التقنية مع الطرف الآخر، ودراسة دقيقة للأثر الذي يمكن أن تتركه كل خطوة في ساحة المعركة.

ليس كل سلاح تقليدي هو عديم الجدوى حتى لو كان حجرا أو عصاً، ولكنه قد يكون أكثر فعالية إذا تم استخدامه في إطار استراتيجية متكاملة تأخذ في الحسبان القدرات التكنولوجية للعدو وتعقيدات المسرح الدولي ودراسة متأنية للتوازنات العسكرية والسياسية.

قد يكون التفوق التكنولوجي للخصم عاملاً ضاغطاً، لكن الاستفادة من الدروس المستخلصة من الحروب غير التقليدية يمكن أن يوفر بدائل فعالة. إضافة إلى القدرة على الابتكار والتكيف مع الظروف الصعبة كسمة تميز القادة الناجحين في الحروب. مثال على ذلك هو مشهد الشهيد يحيى السنوار الذي رفع عصاه في مواجهة الطائرة المسيّرة الإسرائيلية. قد تبدو العصا بسيطة وغير فعّالة أمام هذه التكنولوجيا العسكرية التي تمثلها المسيّرة، لكنها في الحقيقة تمثل رمزية عميقة للإرادة أمام القوة الغاشمة.

فالعصا لم تكن مجرد أداة بدائية بهذا المعنى، بل رمزيتها تتجسد برفض الهيمنة المطلقة للتكنولوجيا على مصير الشعوب وحريتها.

في نهاية المطاف، لا يمكننا إنكار أن التكنولوجيا تلعب دوراً محورياً في الحروب الحديثة، لكن التكيف مع الفجوة التقنية هو تحدٍ يمكن مواجهته من خلال التخطيط الاستراتيجي، التحالفات الدولية، والإبداع في استخدام الموارد المتاحة وتوظيف كل الإمكانيات الممكنة لتحقيق أهداف واقعية.

هي دعوة للتفكير في كيف يمكننا تحويل الفجوة التقنية “التكنولوجية” والعسكرية إلى فرصة للتعلم والإبداع، وكيف يمكن للإرادة أن تتفوق على الوسائل المادية، عندما تكون مدعومة برؤية واستراتيجية محكمة تأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات المحيطة.. والتكيّف مع الظروف لتحقيق النصر!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان