وماذا بعد ثبات المقاومة.. هل الصمود يكفي؟!
يقف العالم اليوم مشدوها أمام أسطورة ثبات المقاومة لأكثر من عام.
وقد كان يحسب أنها مسألة أسابيع فقط في بداية حرب الإبادة الشاملة والجنونية وينتهي خبرها في غزة تماما.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsجريمة الاغتصاب تزيد الحالة السودانية بشاعة
سارة نتنياهو.. المرأة الشريرة في إسرائيل
الذين عادوا من الفضاء!
لكن ما حدث أن العالم قبل طوفان الأقصى ليس كما هو بعده، ودارت الأحداث بفضل شراسة وثبات وإيمان المقاوم الفلسطيني في اتجاه مغاير لما كان متوقعا لها من كافة المتابعين.
لقد صنع أداء المقاومة وثباتها صورة عظيمة، وذلك رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها منذ الساعة الأولى للطوفان.
ورغم الخسائر المرعبة للشعب الفلسطيني الذي فقد أرواح ما يقرب من خمسة وأربعين ألفا من أبنائه معظمهم من النساء والأطفال والمسنّين والمرضى الذين قضوا لتوقف معظم المستشفيات وانعدام وجود الدواء اللازم لهم وهم بشر من حقهم التداوي.
وذلك فضلا عن أضعاف هذا العدد من المصابين، وعلاوة على الخراب غير المسبوق للبنية التحتية، حيث تمت تسوية معظم مدن غزة وقراها بالأرض المشبعة بالدم، لتسجل على أنها أكبر مجزرة في التاريخ الحديث والمعاصر.
وقد تلوثت المياه على شح وجودها، وانعدم الغذاء بعد الحصار الخانق للأبرياء لإنزال العقاب بهم والانتقام منهم، وتوقفت الدراسة بالقطاع، فلا مدراس بغزة أو جامعات بعدما تحولت المدارس إلى ملاجئ للنازحين من كل أنحاء البلاد.
ولا قطاعات صحية تعمل بشكل طبيعي، بل أصبح الأطباء أنفسهم مستهدفين بالاعتقال أو القتل لثباتهم على خدمة الجرحى بأقل إمكانيات متاحة.
ثم يأتي مشهد مقتل قادة المقاومة ليحسب المتابع أن تلك الأحداث سوف تقصم ظهر المقاومة أو تضعفها، فنجد أن العمليات تزداد شراسة، والخسائر الإسرائيلية تتوالى بصورة لم يعرفها المحتل أو يتصورها، وتتم العمليات الفردية وكأن المقاومين يقودون أنفسهم بأنفسهم ولا ينتظرون أوامر من قيادة وضعت نفسها بين الجنود وتحارب مثلهم.
ويحدث ما لم يكن متقبلا من قبل على مستوى دولة الاحتلال من مقتل أعداد كبيرة من الجنود أو وجود أسرى لدى المقاومة، أو تحطم للبنية التحتية في مدن الاحتلال، أو تعطل الدراسة وهروب أكثر من نصف مليون إسرائيلي خارج البلاد، أو وجود الشعب الإسرائيلي بأكمله مع حكامه بالخنادق لمدة ساعات طويلة كل يوم، وصار ذلك اليوم أخبارا متداولة بشكل غير مستغرب، لقد تطور مشهد الصراع باعتراف الجميع برغم عدم تكافؤ القوى بين الطرفين المتقاتلين، ليعنّ سؤال هام: ماذا لو كانت المقاومة تحارب الكيان منفردا دون تدخل غربي؟
معايير النصر والهزيمة في حرب طوفان الأقصى
لم يعد من السهل في الحروب الحديثة وضع معايير خاصة بالنصر لتحديد من المنتصر بشكل دقيق.
فما قدمناه في السطور السابقة لم يمنع كل طرف من الأطراف من ادعاء النصر لنفسه، إذ تؤكد المقاومة أن انتصاراتها غير متوقعة، وغير مسبوقة، وأن الخسائر التي كبدتها للمحتل لا يمكن نكرانها وأنها وضعته موضع المهزوم أمام خسائر مادية وبشرية ضخمة، وأما الجانب الآخر فما زال يصر على انتصاره التام على المقاومة، وأنه باغتيال قادتها قد قوض قوتها بشكل كلي وما هي إلا مسألة وقت لتخرج من الخدمة ويخلو قطاع غزة منها ليصير مجرد حديقة خلفية للكيان.
وبصرف النظر عن ادعاء أي من الطرفين، فإن هناك معايير للنصر هي التي تحكم وتقرر أيهما المنتصر، فالأمر ما عاد يعتمد على عدد القتلى، أو كم الخسائر المادية، وإنما يعود إلى عدة معايير منها: تحقيق الهدف الذي من أجله اشتعلت الحرب من الأساس، ثم لمن آلت السيطرة على أرض المعركة، ثم القدرة على دفع الطرف الآخر إلى الاعتراف بفشله في تحقيق مآربه، ثم تعجيز الآخر عن القيام بتهديدات مستقبلية له وإحداث نوع من تغيير الموازين لصالحه، وإضافة إلى هذه المعايير يمكن أن نضع اعتبارات أخرى لنتائج الحرب:
أولا: مدى قوة التدخلات الدولية لصالح طرف ضد طرف وإعادة حساب المعايير وفقا لتلك التدخلات.
ثانيا: الحق الأخلاقي والتاريخي والجغرافي إلى جانب أحد الأطراف.
ثالثا: الاعتراف الدولي والشعبي بالحق الثابت لأحد طرفي النزاع.
رابعا: الوضع المعنوي للجنود وللمدنيين معا، ومدى إيمان الشعب بالقضية التي يدفع من حياته ثمنا لها وثباته ظهيرًا داعمًا للجيش، وإصراره على الاستمرار مهما كانت الخسائر لتحقيق الهدف الأعلى للحرب، والمعارك الدائرة.
وبتطبيق تلك المعايير والإجابة عن تساؤلاتها بتجرد وموضوعية، يستطيع القارئ المتابع أن يتوصل بسهولة إلى الحكم على المشهد، بل ويتوقع النتائج المستقبلية رغم ضبابية الأحداث وسرعتها.
هل يكفي ثبات المقاومة لصنع نصر واضح المعالم؟
لسنا هنا في معرض القيام بمقارنة بين قدرات المقاومة مجتمعة في غزة وبين قدرات العدو الإسرائيلي، لأن المقارنة ببساطة لن تكون في صالح الفلسطينيين، لكن على أية حال سوف أقوم بإشارة فقط إلى تلك القدرات بشكل كلي:
أولا بالنسبة للجانب الإسرائيلي: إسرائيل دولة مكتملة الأركان، وإن كانت دولة صناعية مصنوعة قامت على أنقاض دولة أخرى، دولة لها جيش، أو كما يقال دوما، جيش له دولة.
فالكيان كله قام على المحاربين الذين تم الإتيان بهم من مختلف البلدان ليحاربوا مقابل التسكين والتوطين، فهو جيش متكامل يدرس في كليات عسكرية، تخدمه مصانع سلاح، وواردات سلاح، واتفاقات دولية تحتم على دول كبرى مساعدته بأكبر تسهيلات عرفها التاريخ، علاوة على تاريخ من المصالح التي يمثلها وجود الكيان الصهيوني لصالح الغرب عموما والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
ثانيا بالنسبة للجانب الفلسطيني: فلسطين دولة تاريخية لشعب ما زال يقاوم منذ اللحظة الأولى في ظل عدم اعتراف دولي بحقوقه إلا من خلال اتفاقيات مكتوبة على الورق لم تترجم يوما إلى أي فعل إلا لصالح المحتل، فهو شعب مطارد على الدوام، مدارسه تتبع منظمة اللاجئين، لا عملة خاصة به، لا حكومة على أرض ثابتة، لا شعب مستقر، لا جيش نظامي بالشكل الذي يعرفه العالم، مجموعة من المتطوعين للمقاومة، لا مصانع أسلحة، لا واردات وإن كان هناك عمليات تهريب غير معترف بها، فهو مجموعات مقاومة موصومة في عدة محافل بالإرهاب.
العامل الثالث لصناعة النصر المستحيل
بالمقاييس المادية والمقارنة الموضوعية ومطالعة معايير النصر، فإن صناعة المقاومة للنصر في غزة تكاد تكون مستحيلة، إلا إذا وضعنا في الاعتبار العامل الثالث المغيب دوما عند خريجي الكليات العسكرية، والخبراء الاستراتيجيين، والمحللين السياسيين، ذلك هو العامل الإيماني الذي يجعل المجاهد بمئتين من العدو، وعلى حد الإيمان الأضعف بعشرين منهم، أو على أقل تقدير باثنين، وما رأيناه بغزة خلال عام من المقاومة العنيفة، وجدنا أن مؤمن غزة أشد قوة من الميركافا التي يصوب عليها بحذائه المهترئ، ثم يطير في الهواء مكبرا وصارخا “ولعت”، وأشد قوة من كتيبة صهيونية يلغم لها طريقا تسير فيه لتمحى في لحظات، تلك هي قوة الإيمان التي تلهمه ليتحرك، فيرمي، ومن ثم يرمي الله، تلك هي قوة الأرض التي تساعد أهلها دوما، فإن كان غيرهم يود العيش عليها، فهؤلاء يتمنون الموت بها، وفرق بين من يحارب ليسرقها، وبين من يحارب ليعيش ويموت عليها، ليكون جواب سؤال “وماذا بعد ثبات المقاومة؟” أن المقاومة سوف تنتصر، بل هي قد انتصرت بالفعل رغم الموت ورغم الدمار، وسوف تملك الأرض بالثبات عليها حتى آخر طفل يخرج من تحت الأنقاض.