استدعاء النكسة أم استمرارها؟!

جمال عبد الناصر (منصات التواصل)

 

لم يخطئ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين قال في أحد احتفالات بلاده بانتصارات السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، قبل أيام، إننا نعيش أجواءً مشابهة للأجواء بعد نكسة 1967.

إن نظرة فاحصة إلى وقائع ما جرى وما كان قبل 57 عامًا، ستكشف بسهولة أن أطيافًا من الانكسار والإحباط وفقدان الكرامة وأذيال الخيبة التي تجرها الشعوب العربية كانت هي المشاعر السائدة بين الجماهير في وطننا الكبير من المحيط إلى الخليج في ذلك النهار البعيد من تلك الحقبة التي كانت قريبة من عهود الاستقلال في الدول العربية، وكانت الأحلام فيها كبيرة لكنها انتهت إلى انكسار كبير أيضًا، ويبدو بجلاء أننا نعيش أيامًا مشابهة في العموم وإن اختلفت في التفاصيل.

إن مقاربة الأحوال بعد هزيمة الجيوش العربية في يونيو/حزيران عام 1967 مع الانتكاسات التي تتعرض لها بلدان عربية عدة حاليًّا منذ نحو عام، ستلمح أوجهًا للشبه وأوجهًا للاختلاف، وسيكون من الملائم مناقشة ما هو ظاهر في كليهما.

لماذا وقع الصدام؟

كان المد القومي العربي في ذروة سنامه خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ولم يكن ممكنًا في تلك الأثناء أن تتعرض دولة عربية للعدوان أو حتى لمجرد التهديد به دون أن تتداعى لها شقيقات أخرى بالدفاع المبذول، وليس بالبيانات التي لا تسمن ولا تغني.

تشير حوليات ذلك العصر إلى تلقي الرئيس المصري جمال عبد الناصر (1918-1970) معلومات عن أن الكيان الصهيوني الذي ضم يهود العالم من الشتات على أرض فلسطين التاريخية وأقام عليها دولته العنصرية عام 1948، يُعد حشودًا عسكرية على حدوده مع الجمهورية العربية السورية لمنع تسلل الفدائيين إلى الأراضي المحتلة.

المعلومات كان مصدرها القيادة السورية، وأكدتها قيادة الاتحاد السوفيتي الذي كان ينازع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية الهيمنة على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945).

كانت الشعوب العربية مُهيَّأة تمامًا لأي أفكار أو أفعال تؤدي إلى الصدام مع الدولة العبرية التي نشأت برعاية الغرب ودعمه، ولم تكن القيادة السياسية أو العسكرية في مصر وقتها راغبة في التراجع عن وعودها وشعاراتها المرفوعة حول وجوب نصرة العرب لبني جلدتهم في وجه أي خطر.

كان الرد الذي رأته القيادة السياسية المصرية إسنادًا للجيش العربي السوري هو إغلاق مضايق تيران الواقعة في مدخل خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، وتفتيش السفن التي ستمر للتأكد من أنها لا تتبع دولة إسرائيل.

التصعيد والنتيجة!

بعد زيارة لمقر القيادة المتقدمة للقوات الجوية، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في الثالث والعشرين من يونيو 1967 قرار إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، وهو القرار الذي عَدَّته الدولة العبرية إعلانًا بالحرب.

في صباح الخامس من يونيو، شنت طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي هجومًا على القوات المصرية في شبه جزيرة سيناء، وعلى القوات السورية في هضبة الجولان، ولأسباب لا محل لها الآن فقد كانت المحصلة احتلال سيناء والجولان، وانسحاب الجيشين المصري والسوري أمام جحافل الغزاة، إضافة إلى احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية اللتين كانتا تحت الإدارة الأردنية، وكذلك قطاع غزة الذي كان تحت السيادة المصرية.

النكسة الجديدة

قبل عام في السابع من أكتوبر، فاجأت فصائل المقاومة الفلسطينية جيش الاحتلال الإسرائيلي في يوم “عيد الغفران” اليهودي باقتحام السياج الحدودي بين قطاع غزة والكيان الصهيوني ومهاجمة ما تُعرف بـ”مستوطنات غلاف غزة” المتاخمة للقطاع، وكانت المحصلة هي نحو 1200 قتيل إسرائيلي إضافة إلى أسر نحو 250 بواسطة رجال المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

كان هجوم المقاومة رد فعل طبيعيًّا على احتلال وحصار متواصل دون أي بارقة أمل في تخفيف الحصار أو إنهاء الاحتلال، لكن رد الفعل الإسرائيلي كان عنيفًا ومؤلمًا، إذ تكالبت القوة الباطشة على تدمير قطاع غزة وجعله غير صالح للحياة.

لم يحرك العالم ساكنًا وقبله عالمنا العربي، بينما تتكفل آلة القتل الإسرائيلية المدعومة من دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم غطاء لمجرمي الحرب، وتكفلت مشاهد القتل والدمار والأشلاء المبعثرة هنا وهناك، وصرخات الأطفال ونحيب الثكالى، في إشاعة الفوضى وألهبت مشاعر ذوي القلوب الرحيمة، لكنها حفرت خندقًا عميقًا من الجراح القومية والخذلان، إذ اكتفى الجميع بالبيانات والجهود الدبلوماسية وقوافل الإغاثة الرمزية.

تقتضي الأمانة أن نعرّج على إسناد للمقاومة الفلسطينية من حزب الله في لبنان ومن جماعة الحوثيين في اليمن، لكنْ كلاهما متهم بأنه ذراع للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي يُنظر إليها بكونها راغبة في السيطرة على جبهات عدة، وكلاهما لا يتمتع باتفاق وطني على دوره العسكري ومساحة نفوذه السياسي في بلاده.

وأخيرًا بدأت جماعات تُعرّف نفسها بأنها “المقاومة الإسلامية في العراق” بالدخول على استحياء على خط المواجهة مع إسرائيل.

وأيًّا كان إسناد الجماعات للمقاومة الفلسطينية، فإنه يختلف عن إسناد الدول بما لها من قدرات تنظيمية وإمكانات عسكرية وسياسية أكبر، وكذلك من أفق للمناورة والتفاوض.

اجتماع الوجع

أشاعت المأساة الإنسانية في غزة، وأخيرًا في لبنان بعد الغزو الإسرائيلي الزاحف من الجنوب، شعورًا بأجواء نكسة مغلفة بصمت العالم، سددت طعنات قاتلة إلى الكرامة العربية التي غاب عنها الفعل، واكتفت بالقول خاصة مع مشاهد الجوع والعطش في غزة، وعجز العالم عن إدخال المساعدات الإنسانية لإغاثة الأطفال والنساء الذين سقط منهم معظم الضحايا، وإذا أضفنا إلى هذه المأساة المتكاملة ذلك التمزق الحاصل في السودان من تمرد جماعات عدة وصراعها مع الجيش السوداني، وما نتج عنه من نزوح ولجوء الملايين، وكذلك التشرذم الواقع في ليبيا، وتعطيل ذلك لعودة ليبيا للمشاركة في الاقتصاد العربي، وتفرُّق قواها السياسية، وعدم وجود أفق لاتفاق قريب، وخروج سوريا من منظومة الدولة الطبيعية بمشكلاتها المتراكمة من تمزق الأطراف وضعف المركز وانكسار الذراع، وانكفاء العراق على أزمات لم يغادرها منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003.

ومما يفاقم الشعور بالنكسة ذلك المرار الاقتصادي الذي تتجرعه معظم الدول العربية من تدهور عملات دول عدة، وزيادة أعداد من يوصفون بـ”الفقر”، وتدني الأجور وارتفاع الأسعار والغلاء لما فوق الطاقة.

إن كل هذه الأوجاع طعنت في الجسد العربي ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، ولا يبدو أن العالم العربي قادر على لملمة جراحه قريبًا، وإن استطاع ذلك سابقًا بشكل جزئي عندما استخدم العرب سلاح البترول ضد الدول الداعمة لإسرائيل في حرب رمضان العبور عام 1973، فالجامعة العربية في الدرك الأسفل من الهوان والضعف، والعالم العربي فيسفساء من الإرادات التي قد تحتاج إلى معجزة لتلتئم وتكون صورة واحدة تقول للعالم إن العرب ما زالوا أحياءً.

لا جدال في أننا نعيش أجواءً مشابهة لما بعد نكسة 1967، وأن ما قاله الرئيس المصري صحيح، لكن الجدل سيطول إذا أردنا أن يلقي كل منا أسبابه وحججه بشأن المسؤول أو المسؤولين عن النكسة الحالية، التي يبدو أنها ليست نكسة جديدة، وإنما امتداد للنكسة القديمة التي لم تُستدعى لأننا ببساطة ما زلنا نعيش في آثارها ونتائجها حتى الآن.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان