من البوسنة إلى فلسطين.. دروس التاريخ والجغرافيا

على عزت بيغوفيتش

حين زرت سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك أخيرًا لأول مرة، حرصت على زيارة أبرز معالم حصارها خلال فترة الحرب (1992-1996)، وكان أبرزها “نفق الحياة” الذي كان بمنزلة شريان الحياة للعاصمة سراييفو خلال فترة حصارها من القوات الصربية، بل كان عنصر الإنقاذ لها من السقوط حين تمكنت قوات مسلمة من المرور خلاله لدعم الفرقة العسكرية المواجهة لقوات الصرب التي كانت على وشك الانهيار، لكنها تمكنت من الصمود وكسر حصار الصرب عن المدينة.

حين عبرت النفق، تذكرت على الفور أنفاق غزة التي كانت شريان الحياة لها خلال حصارها الممتد على مدى 17 عامًا (منذ عام 2007 عقب تولي حماس رئاسة الحكومة الفلسطينية)، تلك الأنفاق التي مر من خلالها السلاح والمؤن اللازمة إلى القطاع، والتي شكلت مدينة كاملة تحت الأرض، ساعدت المقاومة على تأسيس مصانع للسلاح والذخيرة، وتخزين العتاد الحربي، وتأسيس معسكرات للمقاومين بعيدًا عن عيون العدو ومراقبته.

نفق الحياة الذي حُفر بطرق يدوية تحت القصف خلال الحرب كان صغيرًا جدًّا قياسًا بأنفاق غزة، فطوله لا يزيد على كيلومتر، وعرضه بحدود متر أو أكثر قليلًا، تمتد خلاله قضبان حديدية تمر عليها عربات نقل صغيرة، كانت تنقل السلاح والأدوية والمؤن الضرورية، كما كان النفق هو الطريق الآمن لانتقال القوات البوسنية سرًّا بعيدًا عن قوات الصرب التي كانت تحاصر المنطقة التي تعلو النفق نفسه، لكن هذا النفق ظل رمزًا للمقاومة والصمود، ورغم تغيُّر ملامح المكان المحيط به فإن جسم النفق من الداخل بقى كما هو شاهدًا على تلك الفترة العصيبة.

زيارة إلى بيغوفيتش

تزامن وصولي إلى سراييفو مع ذكرى وفاة القائد البوسني الأبرز علي عزت بيغوفيتش (19 أكتوبر/تشرين الأول 2003)، وقد حرصت على زيارة قبره رفقة زميل الرحلة الحقوقي والسياسي المصري الدكتور أسامة رشدي، حيث شاركنا في مؤتمر المجلس العربي لإعلان العهد الديمقراطي العربي (19-20 أكتوبر 2024)، وفي المقبرة أيضًا تداعت الذكريات حول الرجل الذي دُفن في مدفن عموم المسلمين بالمدينة، ولم يُخصَّص له قبر خاص مثل الزعماء العالميين، حيث اعترض العضو الصربي في المجلس الرئاسي الثلاثي على ذلك، كما اعترض على إعلان حداد رسمي عليه، لكن قبره بارز بين القبور، بقبّة بسيطة تعلوه.

كان بيغوفيتش هو بطل استقلال جمهورية البوسنة والهرسك عن الاتحاد اليوغسلافي، بعد أن سبقتها كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا، ورغم الاعتراف الدولي بجمهورية البوسنة والهرسك، وحصولها على مقعد في الأمم المتحدة، فإن ذلك لم يرُق لمن تبقى من الصرب والكروات فيها.

هنا يبرز درس الجغرافيا الذي تتشابه فيه فلسطين مع البوسنة، فحين تأسست سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني عقب اتفاقية أوسلو عام 1993، لم تكن أراضي تلك السلطة كتلة واحدة، بل ضمت الضفة وغزة وبينهما وبجوارها العديد من المستوطنات الإسرائيلية التي تعيق التواصل، وتمثل أكبر مشكلة أمام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو ما حدث في الوقت نفسه تقريبًا في البوسنة حيث تجاور الصرب (31%) مع البوسنيين البوشناق (52%)، بينما انتشر الكروات داخل البوسنة رغم أنهم أقلية (نحو 15%) (النسبة الباقية لادينيين)، وبعد أن كان للبوسنة عقب استقلالها مباشرة رئيس واحد هو علي عزت بيجوفيتش، تغيَّر الوضع بعد الحرب، ليحكم البوسنة مجلس رئاسي ثلاثي (عضو مسلم وعضو صربي وعضو كرواتي)، ولكن ظل المندوب السامي للاتحاد الأوروبي هو صاحب السلطة الأعلى دومًا الذي من حقه التدخل للاعتراض أو قبول أو منع تعيين أحد المسؤولين، فهل يعيد التاريخ نفسه لنجد مندوبًا ساميًا للأمم المتحدة يكون الحاكم الأعلى لقطاع غزة أو حتى لدولة فلسطين حال التوصل إلى حل نهائي؟!

تواطؤ دولي هنا وهناك

تتشابه البوسنة مع فلسطين في النضال من أجل الاستقلال، وإن كانت مدته في البوسنة قصيرة جدًّا قياسًا بفلسطين، كما تتشابه البوسنة جزئيًّا مع فلسطين في المذابح التي تعرَّض لها أهلها، ولعل أبرزها مذبحة سريبرنيتسا التي وقعت عام 1994 وخلَّفت 8 آلاف شهيد خلال أسبوعين، بينما بلغ عدد ضحايا الحرب في البوسنة عموما نحو 120 ألفًا غالبيتهم العظمى من المسلمين، ويمكن أن يكون عدد شهداء غزة وحدها نصف عدد ضحايا البوسنة خلال فترة حربها، والملمح المشترك هنا هو التواطؤ الدولي في مذبحة سريبرنيتسا حيث تواطأت الكتيبة الهولندية (ضمن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام) مع القتلة الصرب، وسلمتهم من لاذ بها، كما سهّلت لهم المرور إلى مناطق المسلمين، ورغم إدانة المحكمة الجنائية الدولية لاحقًا للكتيبة الهولندية فإن هولندا عادت لتكريم عسكرييها السابقين في البوسنة قبل عامين فقط!

في الموقف الدولي من حرب البوسنة كان من الممكن وقف الحرب في أيامها الأولى لو توافرت إرادة دولية لذلك، لكن تلك الإرادة ظلت متفرجة على حرب الإبادة، وبالكاد تتصنع جولات تفاوض عبثية بين العواصم الأوروبية، حتى بالغ الصرب في عدوانهم وتوسعهم حتى على حساب الكروات الذين هم جزء من الغالبية الكاثوليكية الأوروبية، وقد تدخّل الأمريكيون في النهاية، وقرروا رفع الحظر التسليحي عن البوسنة، كما قادوا قوات من حلف شمال الأطلسي (ناتو) لوقف الحرب والتوسع الصربي، وأنهوا الحرب باتفاق دايتون للسلام في ديسمبر/كانون الأول 1995، الذي حدَّد مجلسًا رئاسيًّا ثلاثيًّا لحكم البلاد بعد أن كان لها رئيس واحد، وقد وصف الراحل علي عزت بيغوفيتش الاتفاق بأنه ظالم لكنه أفضل من استمرار حرب الإبادة، وبالفعل فقد كانت صربيا تحديدًا تريد فرض هيمنتها الكاملة على البوسنة، لكن الاتفاق حفظ للبوسنة استقلالها وعضويتها في الأمم المتحدة رغم التنازلات فيما يخص حقوق المسلمين الذين يمثلون أكثر من نصف سكانها.

ما يجري من جولات تفاوض الآن لإنهاء الحرب في غزة يستهدف فيها الكيان تحقيق تسوية أسوأ مما حدث في البوسنة، وتحديدًا في ترتيبات ما يُسمى اليوم التالي، حيث يريد حكم قطاع غزة بشكل مباشر، أو عبر وكلاء غير فلسطينيين، لكن صمود أهالي غزة ومقاومتها سيكون الصخرة التي تتحطم عليها هذه الهلوسة الصهيونية، وإن غدًا لناظره قريب.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان