المقاومة بالسلاح أكبر وأخطر أن تكون للمنظمات وحدها

بعد وقف إطلاق النار بين القوات المصرية والإسرائيلية إثر حرب 1973، ذهبت إلى مدينة السويس. كنت بين الصبا والشباب، وهذه زيارتي الأولى لمدينة بقناة السويس.
داهمتني صدمة هزيمة 1967 وأنا في التاسعة من عمري، فصرت كما الكثيرين بجيلي وكأنني طويت السنين إلى كهولة مبكرة. وبعدها مباشرة تعرفت على أبناء القناة المهجرين توقيا لهجمات العدو المجنونة، والتي لا ترعى قانونا إنسانيا دوليا ولا أخلاقا، ولا ترحم مدنين عزل ولا نساء ولا أطفال.
ذكريات
السويس 1973
هذه الأيام مع مشاهد القتل الجماعي الإبادي في لبنان بعد غزة وعلى الهواء مباشرة عبر الفضائيات أستعيد بوضوح السويس نهاية 73، وكأنني هناك للتو. وأمران لا يمكن نسيانهما، ولو عشت مائة عام:
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
الأول مشاهد الدمار، حيث أبصرت مدينة جرى تسوية عمرانها ومرافقها بالأرض، وحتى أنني عثرت بالكاد في مدينة الأشباح هذه على مقهى مفتوح نصفه مهدم بفعل إجرام جيش الاحتلال الصهيوني وتمسكه بتوسعه إلى غزة وسيناء والضفة الغربية/ القدس.
والثاني آثار جنازير دبابات ومدرعات العدو غائرة في أراض زراعية على مشارف السويس بمنطقة “الجناين”، والبعض منها معطوب. ومعها لا أنسى ما سمعته عن المقاومة الشعبية، التي صمدت، ودافعت عن السويس وحررتها، وبعد انسحاب قوات الجيش وتسليم المدينة للعدو في سياق “تراجيديا ثغرة الدفرسوار” وتمددها جنوبا.
المقاومة الشعبية
في قناة السويس
لا ينكر أو يقلل إنسان عاقل من تضحيات أبناء الشعب المصري في صفوف الجيش، وعلى مدى الحروب ضد الصهيونية منذ 1948 وصولا إلى حرب 1973، أو التنسيق خلال العدوان الثلاثي 1956 والأيام الأخيرة من حرب 1973 بين ضباط بالجيش ورجال المقاومة الشعبية، ويتقدمهم معارضون من مختلف الانتماءات، وكذا توزيع السلاح على مواطنين غير منظمين لا في تنظيمات الدولة أو المعارضة.
وهذا جانب من خبرة حرب الشعب في منطقة قناة السويس، ولو كانت محدودة غير ممتدة، على غرار تجارب شعوب فيتنام وكمبوديا، وكذا الأشقاء بالجزائر.
وعلى أي حال، فإن خبرة المقاومة الشعبية عند المصريين، قبل صلح كامب ديفيد، أقدم في التاريخ. ولا تقتصر على شهرة بورسعيد 56 والسويس 73. ولا ننسى هجمات الفدائيين على معسكرات الاحتلال البريطاني بالقناة، وبخاصة بعد إلغاء حكومة الوفد 1951 لمعاهدة 36.
تسليح الشعب ليدافع
عن الوطن ونفسه
تستحق التأريخ والاعتبار والدراسة العلمية، وبما يليق بأهميتها للحاضر والمستقبل، تجارب المقاومة الشعبية الجادة في عالمنا العربي بصفة عامة، وليس بمصر وحدها. وبالطبع المقصود تلك التجارب غير الشكلية المظهرية الاستعراضية، والتي عرفناها لذر الرماد في العيون واستهلاك طاقة الغضب والتحدي عند الناس في الهواء.
وأصبح من الضروري فهم علاقة هذه “المقاومات” بالبيئة الشعبية المحيطة بها، احتضانا أو تحفظا وتباعدا. وفي قلب هذه التجارب التاريخية لمجتمعاتنا، المجموعات المسلحة مع عمر المختار ليبيا (11 ـ 1931) وعز الدين القسام فلسطين (29 ـ 1935)، وعبد الكريم الخطابي وولده محمد بريف شمال المغرب من 1920 حتى الخمسينيات، وبالطبع حرب التحرير الجزائرية من الأمير عبد القادر 1932 إلى الاستقلال 1962.
وتحديدا، نحتاج أن نضع تحت الضوء مع التطورات الأخيرة في لبنان وفلسطين، والمفتوحة على انتصارات أو انكسارات لن تكون حاسمة على الأرجح على مدى قريب، مسألة كيف تتحول مقاومة تحمل عنوان تنظيم بعينة “كحماس” أو “حزب الله” له عقيدته وقيادته وأعضائه وسلاحه وتحالفاته إلى حرب الشعب؟
وأظن آن الأوان، وإن متأخرا، لطرح السؤال الذي عرفته مصر بعد هزيمة 1967 واستلهاما لخبرات نضال شعوب العالم ضد الاستعمار: لماذا لا يجرى توزيع السلاح على الناس خارج الجيوش والتنظيمات الحزبية المغلقة أو شبه المغلقة؟ كي يدافعوا عن أنفسهم، ويشاركوا في الكفاح المسلح لدحر الاحتلال وتحرير الأرض والإنسان والإرادة.
أكبر من
الجيوش والتنظيمات
في مصر نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات، امتنع نظام عبد الناصر/ السادات عن الأخذ بتسليح الشعب (بالطبع توزيعه على من يملك حمل السلاح واستخدامه). ويلفت نظري اليوم أن مطلب توزيع السلاح على المواطنين تجاوز طلاب جامعات متهمين “بالرومانسية الثورية”، يستلهمون صمود وانتصارات “الفيت كونج” والثورة الصينية ومسيرة “سييرا مايسترا” الثورة الكوبية وغيرها.
فعند أحداث يتبدى فيها بشدة عجز الدولة/ الجيش الدفاع عن المدنيين أمام توحش عدوان الاستعمار وهمجيته، كما في مدرسة بحر البقر ومصنع أبي زعبل ومدن العمق بدلتا النيل، تسرب إلى متون التغطيات بالصحف مصرية وأجنبية كلمات بسطاء الناس أن وزعوا علينا السلاح لندافع عن أنفسنا والوطن.
معارك الكفاح المسلح
بالقرن 21
أظننا اليوم في حاجة للوعي والعمل، انطلاقا من المعارك الوطنية الممتدة بنا وبمنطقتنا إلى القرن الحادي والعشرين وفي مواجهة أسلحة الاستعمار والاحتلال الأكثر تطورا والأشد فتكا، بأن هذه المعارك لا يجب تركها للجيوش أو للتنظيمات المقاومة المسلحة وحدها. وهذا دون بخس تضحيات حماس وحزب الله، ومن يشاركهما من تنظيمات أقل حضورا وإسهاما.
ولكن أين هذا السؤال والاجتهاد في الإجابة عليه؟ بعد مرور عام من حدث تاريخي في الصراع مع الصهيونية بأهمية هجوم طوفان الأقصى 7 أكتوبر 2023، وإزاء ما تحمله الناس في غزة ولبنان العزل وبلا حماية فعالة جدية بالسلاح أو الضغط السياسي الاقتصادي لأرواحهم وبيوتهم ومستشفياتهم وأماكن لجوئهم، وأيضا تجاه احتمالات التوسع في القتال واحتلال الأراضي والإبادة.
مقاومة خارج التنظيمات
وهذه ليست دعوة للتقليل من شأن وأهمية وفاعلية تنظيم الناس في السياسة والعمل المسلح، أو إعلان هزيمة التنظيمات المسلحة المقاومة للاستعمار، على اختلاف منطلقاتها الفكرية العقائدية. وهذا وإن غاب عن المقاومات المسلحة في القرن 21 بعالمنا العربي الأشكال “الجبهوية” التي طبعت في الأغلب القرن العشرين عندنا. ولعل آخرها منظمة التحرير الفلسطينية.
ولنتذكر خبرة القرن العشرين عندنا حين اضطرت سلطة احتكار العنف ومصادرة السياسة عندما تدلهم الأمور وتصل إلى كارثة المزيد من الاحتلال والقتل الجماعي إلى التغلب على خوفها من أن يكون السلاح بين أيدي المواطنين، فتقوم هي نفسها بتوزيعه عليهم، وكما حدث في بورسعيد 56 والسويس 73.
بالطبع ليس المطلوب لا اليوم ولا غدا الكف عن بناء تنظيمات مقاومة وتطويرها والعمل على تجذرها بين الناس وامتلاكها أسلحة أكثر فعالية في الدفاع عنهم وعن كياناتها وقياداتها ومقدراتها وأن يكون لها سياسة وبرنامج وطني محل اتفاق واسع، وأن يحدونا أمل في التعلم من الأخطاء وتجاوزها.
ولأن مبادرات المقاومة المسلحة، وفق الخبرة الفلسطينية في الضفة الغربية وفلسطين المحتلة 1948 بالأخص ومؤخرا تتجاوز التنظيمات، ولا تكف عن أن تأتي من خارجها، فالمأمول التقاط كل هذه الخيوط كي يجرى نسج ما يعزز مقاومة التنظيمات من خارجها، ويديم كفاحها، ويحول دون أن تؤدي الضربات الموجهة إليها إلى انكسارات يمتد بها الزمن.
ولا يصح أن يمتد الاعتقاد باحتكار السلاح والعنف من “الدولة” ليصيب ويستوطن “التنظيم المقاوم”، لأن في هذا عرقلة وكبح لنضال الشعوب من أجل الحرية والاستقلال عند اللحظات التاريخية المفصلية الفارقة.
مرة أخرى، لنفكر في كون مقاومة الاستعمار بالسلاح، وفي القرن الحادي والعشرين أيضا، أكبر وأخطر من أن تترك لمنظمات كحماس وحزب الله وحدها.