عام على الطوفان.. ولا يزال هناك المزيد
عَامٌ عَلَى الطُّوفَانِ مَرَّ كَطَائِفٍ … مِنْ رَبِّنَا، وَبِهِ العَدُوُّ يَمِيدُ
ها هو عام طويل من المآسي والدمار يمر على أهل غزة كأنه دهر تحت القصف الإسرائيلي الوحشي على مرأى ومسمع من العالم كله، وأهل غزة في ظلام الحرب والإهمال.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsجريمة الاغتصاب تزيد الحالة السودانية بشاعة
سارة نتنياهو.. المرأة الشريرة في إسرائيل
الذين عادوا من الفضاء!
ومن ناحية أخرى فإنه كذلك لم يكن عامًا سهلًا على الاحتلال الصهيوني الغاشم وداعميه في جرائم الإبادة الجماعية التي لم تتوقف طوال هذا العام. لقد كان عامًا انكشفت فيه كل زيف ادعاءاتهم التي ظلوا يحشدون لها على مدى قرنين من الزمان، كما سقطت أقنعتَهم بالدماء وجرائم القتل والعنصرية والاستغلال في ظل النظام الحالي الذي يدَّعي التقدم والحداثة والديمقراطية. ولكن الأهم من ذلك، أن شعور الخيبة والإحباط الذي عاشه هؤلاء المجرمون نتيجة عدم القدرة على السيطرة على سكان غزة الذين يعيشون على بقعة صغيرة من الأرض، رغم تمكنهم من السيطرة على العالم كله، الأمر الذي جعل ما يعيشه الناس خارج غزة أشد مما يمر به المحاصرون في غزة، وكأن كل ثانية تمر بهم أطول من ساعات في غزة.
ورغم الأرقام والإحصاءات الناتجة عن هذه الحرب التي عانى منها أهل غزة من أعداد الشهداء وكمية المتفجرات والقنابل التي ألقيت عليهم والتي تساوي ثلاثة أضعاف ما ألقي على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية. فإنها رغم ما خلفته من دمار ودماء في غزة لم تحقق أهدافها ولم تؤثر في عزيمة وصمود أصحاب الأرض، بل كانت هزيمة لإسرائيل وداعميها وضربة قاصمة لهم، ضربة أبادت أكاذيبهم وزادتهم وهنًا على وهنهم “كَناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً ليِوُهِنَها … فَلَمْ يَضِرّْها وأوْهى قَرْنَه الوعِلُ”.
إسرائيل بعيدة
وكما ذكرنا وأكدنا من قبل، فإن إسرائيل حتى بعد عام كامل من عملياتها لا تزال بعيدة عن تحقيق الهدفين المعلنين لها منذ بداية مجازرها في غزة. لكن أهل غزة خلال هذا العام، تمكنوا من تحويل قضيتهم التي كانت بالكاد تُذكَر إلى القضية الأكثر أهمية في العالم كله. فقد خرجت مظاهرات غير مسبوقة في جميع أنحاء العالم لدعم القضية الفلسطينية والتضامن معها والتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلي.
لقد نجحت غزة في الخروج بالقضية الفلسطينية خارج حدود فلسطين وجعلها قضية الإنسانية، حيث كشفت للجميع عن حقيقة النظام الصهيوني المحتل العنصري الذي نجح على مدار قرن تقريبًا في استعباد العالم، وجعله أسيرًا له ولأكاذيبه. وكان هذا العام دافعًا لجميع الشعوب إلى المطالبة بحريتهم بمطالبتهم بحرية فلسطين.
لقد أثارت القضية الفلسطينية وعي الضمير الإنساني، وكشفت السجن الكبير الذي تم اعتقال الجميع فيه على يد أشكال احتلال متعددة، سواء أكان سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو إعلاميًّا. ورغم ذلك فإن فلاسفة مثل يورغن هابرماس وشيلا بن حبيب، الذين أمضوا كل حياتهم الفكرية الفلسفية في النقد والذين يُفترض أنهم يعلمون العالم التفكير النقدي، لا تزال عقولهم دُمًى في أيدي هذا الاحتلال الفكري المتسلط. وفي هذا السياق يكفي أن طوفان الأقصى نجح في تسليط الضوء على دعاة التنوير هؤلاء وبيان مدى تأخرهم، وهم لا يزالون يبررون موقفهم المتخاذل تحت ستار أن مشاريعهم الفكرية لم تنته بعد. وهكذا فضحهم الطوفان وكشف زيفهم وزيف مبرراتهم أمام الإنسانية.
بالطبع، فعل طوفان الأقصى أكثر من ذلك بكثير. فقد أظهر أن البطولة الحقيقية ما زالت حية وجعلها واقعًا شاهده العالم، رغم ما كان يقال إنها لم يعد لها مكان في ظل الأسلحة المتطورة وتقنيات الدفاع المتطورة. كما أثبت الطوفان لمن استسلموا لعقلية من يزعمون أنهم “شعب الله المختار” ويفتخرون بتميزهم على الآخرين رغم أنهم أبعد ما يكونون عن الله وتعاليمه ويعتمدون فقط على التكنولوجيا وقوتهم، كيف يمكن للمؤمن الواثق في الله والمتوكل عليه أن يفعل ولو كان وحده.
التأثير في المستكبرين
ومن أوضح الدلائل على ذلك ما شاهدناه من ردود الفعل الواثقة بالله عندما يتم انتشال أي شخص في غزة من تحت الأنقاض ولو جزئيًّا فإنه يخرج مؤكدًا على النصر ويتحدى العالم، وحتى لو وجد جميع أقاربه قد قضوا نحبهم، وحتى لو مات هو الآخر فإن هذا الإيمان العميق يوجه رسالة لكل شعوب اليوم ربما لم يسمعها من قبل في هذا العصر. كما أن عبارة “حسبنا الله ونعم الوكيل” تقدم واقعًا ثوريًّا وقوة إيمانية تتجاوز كل الانتقادات والغطرسة التي يتعامل بها النظام العالمي مع القضية الفلسطينية.
لا ندري كيف يمكن لهذا الصوت أن يؤثر في هؤلاء المستكبرين، لكن صمود أهل غزة وإيمانهم بالله ومقاومتهم للدمار والقصف الذي ينهمر عليهم، وهم يتلون آيات الله ويشكرونه، ولا يخشون الموت بل يتحدونه، كل ذلك أصبح حقيقة تفتح أعين شعوب العالم وعقولهم وضمائرهم على الاحتلال الكبير.
وفي المقام الأول أيقظت هذه الحالة الغزاوية أعينَ الشعوب الإسلامية. حيث أعادت إحياء الجهاد والشهادة واليوم الآخر وارتباط المسلمين بفلسطين والقدس، وكلها قيم كادت تُنسى قبل عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. فالمؤمن ما دام متمسكًا بإيمانه وعلى صراط مستقيم لن يخسر أبدًا، فغزة والشهادة والتضحيات جزء من الجهاد الإسلامي. واستشهاد المؤمن لا يعني الهزيمة أو الخسارة، بل المصيبة أن يصير مشابها لعدوه البعيد عن الإيمان.
في الواقع لقد كشفت غزة أن هناك حسابات أخرى للنضال ضد هيمنة النظام العالمي المادي الذي يفسد كل شيء بغطرسته وعنصريته بدعوى التفوق التكنولوجي. لقد شهدت شعوب العالم كله من خلال شعب غزة المُحاصَر منذ 17 عامًا وكأنه محتجز في معسكر اعتقال، أن الإيمان القوي لديه قدرة غير محدودة على مقاومة الاحتلال وهزيمته وانتزاع الحرية. بالإضافة إلى ذلك، قدَّم شعب غزة بكل فئاته لكل شعوب العالم دروسًا واقعية في المقاومة وسبل التحرر. لقد أظهرت غزة بكل ركن فيها، أن تحقيق حياة مختلفة ووجود آخر لا يمكن إلا من خلال الإيمان والمواقف الحقيقية والمقاومة والاستشهاد.
وقد مثل طوفان الأقصى، دعوة للناس إلى الاستيقاظ من غفلتهم، والصعود على متن سفينة النجاة. وذلك حين ظنت إسرائيل العنصرية المتغطرسة وحلفاؤها أنهم يستطيعون -كما اعتادوا أن يفعلوا في الماضي- قمع هذه الانتفاضة في مهدها خلال بضعة أيام. فلم يشهد الصهاينة على مدار تاريخهم حربًا استمرت عامًا كاملًا. ولكنهم بعد مرور عام من الحرب يشعرون الآن بأنهم ينجرون إلى مغامرة مجهولة. بينما كان أهل غزة وصمودهم في المقاومة بل والهجوم مستمرين في تصعيد نضالهم، مدركين لطبيعة الطوفان ومتحدِّين لقوى الهيمنة العالمية المتحيزة للاحتلال. وفي الذكرى السنوية الأولى رأينا الناس في جميع أنحاء العالم يسارعون للالتحاق بهذا الطوفان المتصاعد.