العبث الأمريكي بالمنطقة.. وأزمة الداخل العربي
في أعقاب اقتحام المقاومة الفلسطينية، للمستعمرات والقواعد العسكرية الإسرائيلية، في السابع من أكتوبر/تشرين الثاني من العام الماضي، كان أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، أول مسؤول أجنبي يصل إلى إسرائيل، في إطار الإعلان عن تقديم الدعم المطلق، وكان من بين ما صرح به في تل أبيب قوله: لم آت إلى هنا بصفتي وزيرا للخارجية الأمريكية فقط، إنما بصفتي يهوديًّا، ذلك أن جدي موريس بلينكن يهودي هرب من روسيا، ووالدي بالتبني يهودي هرب من المحارق، وكذلك والد زوجتي، لذا فأنا أتفهم القلق اليهودي مما يجري.
ثم توالت زيارات بلينكن للمنطقة، التي بلغت عشر زيارات، تحت عناوين تحقيق السلام، والتوصل إلى اتفاق لوقف القتال، وتبادل الأسرى، وإطلاق سراح الرهائن، وإيصال المساعدات إلى الفلسطينيين، وتقديم مبادرة أمريكية، وبحث صفقة جديدة، إلى غير ذلك من العناوين، التي ثبت بالدليل القاطع أنها كانت تتناقض مع مجريات الأحداث على أرض الواقع، ذلك أن تصعيد القصف الإسرائيلي -بالقنابل الأمريكية- كان يتزامن مع كل مغادرة لبلينكن، وكأن حال الزيارة يشير إلى أنها كانت للاطمئنان على سير الأحداث، وعلى ثبات المواقف الرسمية بالمنطقة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل بدأ سقوط الطغاة وانتصار إرادة الشعوب من دمشق!
الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
أين الله مما يحدث لسوريا؟ وجاء الجواب!!
على الجانب اللبناني لم يكن الموقف أفضل حالًا، إذ إن عاموس هوكشتاين، الوسيط أو المبعوث الأمريكي للسلام، هو أيضا من أبوين يهوديين، ليس ذلك فقط، بل ولد في إسرائيل التي يحمل جنسيتها إلى جانب الجنسية الأمريكية، ودرس في مدارس إسرائيلية دينية، ليس ذلك فقط أيضا، بل خدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكان ضمن قوات الاحتلال في الجنوب اللبناني فيما قبل عام 2000، ومن أهم تصريحاته: أنه لا يجب ربط مصير لبنان بصراعات أخرى، في إشارة إلى حرب الإبادة في غزة، وأن قرار مجلس الأمن رقم 1701 لا يكفي لتحقيق الهدوء على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، في انحياز صارخ إلى الموقف الإسرائيلي.
المنطق وواقع الحال، يؤكدان أننا لسنا بصدد وسطاء محايدين، أو منصفين، أو حتى شهود عدول، وهو ما يتطابق مع الموقف الأمريكي عموما، الذي أسفر عن تقديم نحو 37.5 مليار دولار مساعدات لإسرائيل على مدى عام واحد من الحرب، من بينها 17.9 مليار دولار مساعدات عسكرية، في معظمها قذائف مدفعية وقنابل خارقة، يبلغ وزن الواحدة منها طنَّين، إضافة إلى أنظمة الدفاع الصاروخي ووقود الطائرات، فضلا عن الدعم المتعدد الأوجه.
الولايات المتحدة تشارك في العدوان
على الصعيد العسكري أيضا، كانت الأقمار الصناعية، وطائرات التجسس تعمل على مدار الساعة لحساب قوات الاحتلال، في محاولة لكشف الأنفاق وأماكن الأسرى، ومواقع قادة حماس وحزب الله في آن واحد، وكذلك كانت الطائرات الأمريكية من خلال القواعد العسكرية بالمنطقة وحاملات الطائرات، تقصف بين الحين والآخر منصات إطلاق الصواريخ داخل الأراضي اليمنية، في مشاركة واضحة في الحرب، دعمًا للكيان الصهيوني، كما كانت تقصف مواقع داخل العراق للهدف نفسه، ثم توجت ذلك بالتصدي للصواريخ الإيرانية التي استهدفت إسرائيل في عمليتي الوعد الصادق1 في إبريل/نيسان الماضي، والوعد الصادق٢ في الأول من أكتوبر المنصرم، ثم ساعدت إسرائيل على قصف الأراضي الإيرانية في 26 من الشهر نفسه.
وعلى الصعيد السياسي، استخدمت الولايات المتحدة، على مدار العام، حق النقض (الڤيتو) خمس مرات لعدم إدانة إسرائيل، أو وقف العدوان، أو تنفيذ هدنة إنسانية، أو حتى إرسال بعثة تقصي حقائق حول ارتكاب جيش الاحتلال جرائم حرب، واستخدمته مرة سادسة في إبريل الماضي، ضد منح فلسطين حق العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، ثم أدّت دورًا كبيرًا في الأروقة الدولية والعواصم العالمية، لعدم إصدار محكمة العدل الدولية، أي قرارات تجبر إسرائيل على وقف الحرب، ولعدم إصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارًا باعتقال رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، باعتبارهما مجرمي حرب.
كل مجريات الأحداث منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، تؤكد أن الولايات المتحدة مشارك أصيل في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والعدوان الغاشم على الشعب اللبناني، في الوقت الذي شكلت فيه حائط الصد، ضد أي تحرك دولي في المحافل الدولية اتجاه إسرائيل، واستخدمت مبعوثيها في جولات على قدر كبير من الدهاء، في إطار عملية تخدير للمجتمع الدولي والشعوب المستنفرة، استهلكت فيها الوقت، حتى بلغ عدد الشهداء في صفوف الشعب الفلسطيني ما يزيد على 42 ألفًا، معظمهم من النساء والأطفال، فضلا عن نحو عشرة آلاف مفقود تحت الأنقاض، وما يزيد على 100 ألف مصاب، إضافة إلى نحو 3000 شهيد في صفوف الشعب اللبناني، وما يزيد على 12 ألفًا من الجرحى.
بوب وودورد يفجر المفاجأة
وفي هذا الصدد أيضا، تجدر الإشارة إلى ما كشفت عنه صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أمس الأول، عن مصادر مطلعة، من أن 500 تقرير تم تقديمها لإدارة الرئيس جو بايدن تؤكد استخدام الأسلحة الأمريكية في قتل المدنيين في غزة، وأن هذه التقارير قدمت من جهات رسمية ومنظمات إغاثة ومنظمات حقوقية، وعلى الرغم من ذلك العدد الهائل من التقارير، فإنه لم يكن لها أي تأثير، كما هو واضح، على إمدادات السلاح، بل على العكس من ذلك، فقد حصلت في الآونة الأخيرة على أسلحة أكثر تطورًا، خصوصًا في ضوء التزامن مع الانتخابات الأمريكية، وسباق الديمقراطيين والأمريكيين معًا إلى إرضاء اللوبي اليهودي هناك.
وربما جاء كتاب “الحرب” للصحفي الاستقصائي الأمريكي المخضرم بوب وودورد، في هذه الآونة، ليؤكد ما نشير إليه، من خلال لقاءاته مع أنتوني بلينكن، التي يفجر فيها مفاجآت من العيار الثقيل، ويقر فيها، في الوقت نفسه، بأن مواقف قادة المنطقة من الحرب، في الغرف المغلقة، كانت مختلفة تماما، مع ما هو معلن في وسائل الإعلام، أو البيانات الرسمية للدول ذات الصلة، ذلك أنها كانت فيما يبدو متطابقة مع الموقف الأمريكي، الساعي إلى هزيمة المقاومة الفلسطينية، لأسباب عديدة، من أهمها أنها تمثل الإسلام السياسي، أو جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يفسر ذلك الموقف العربي الرسمي المتخاذل، اتجاه إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، ثم اتجاه العدوان على لبنان، الذي تمثل فيه المقاومة بالطبع المحور الإيراني بالمنطقة.
وفي هذا الإطار، وفي ظل هذه المعطيات، يمكن التأكيد على أن المنطقة تتعرض اليوم لأبشع مؤامرة في تاريخها، على غرار مؤامرة التقسيم عام 1916 المعروفة بـ”سايكس بيكو” التي ما كانت لتتم دون خيانة من الداخل العربي، إذ إن كل الشواهد تؤكد أن العبث الأمريكي بالمنطقة قد بلغ مداه. وإذا كنا ننشد مستقبلًا أفضل للمنطقة وللأجيال المقبلة، فقد آن الأوان للتصدي لمثل هذه المؤامرات، التي يمثل فيها الكيان الصهيوني مجرد أداة، وتوفر له القوى الغربية، بشكل عام، كل وسائل وإمكانيات التنفيذ.