القرضاوي والشيعة.. مرحلة الرأي العلمي وخلاصة تجربته
تحدثنا في ثلاثة مقالات سابقة عن قصة القرضاوي مع الشيعة، في مراحل ثلاث، وبقيت المرحلة الرابعة والأخيرة، التي تمثل أخذ القرضاوي مسافة لتدوين موقفه مكتوبا محررا، بعد أن اشتعل الخلاف بينه وبين الشيعة، بسبب الدور الذي قامت به إيران في عدد من المناطق العربية السنية، وجاءت مرحلة رابعة تمثل مرحلة إبداء القرضاوي رأيه العلمي في المذهب الشيعي، وتقديم خلاصة لتجربته مع هذا الملف.
وذلك بعد أن جاءت مرحلة الافتراق بين القرضاوي والشيعة، وبدا واضحا ألا أمل في اللقاء على قواعد التقريب بين السنة والشيعة السابقة، التي دخلها القرضاوي بكل طاقته، وبكل ما لديه، وقد مد يده بكل ما يمكن لمنع أي فتنة مذهبية في البلاد الإسلامية. والعجيب أن القرضاوي مر بتجربتين في الحوار، انتهتا بالتوقف.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل بدأ سقوط الطغاة وانتصار إرادة الشعوب من دمشق!
الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
أين الله مما يحدث لسوريا؟ وجاء الجواب!!
الأولى: الحوار بين الأديان، وانتهت بأنه أوقف الحوار مع الفاتيكان، بعد أن تعامل الطرف المسيحي الأوروبي بعدم اعتراف بالإسلام كدين سماوي، عندئذ أعلن القرضاوي جملته الشهيرة: فما قيمة لقائنا إذن؟! وأعلن وقف الحوار، وهي تجربة أيضا تحتاج إلى رصد سواء على مستوى قامة كبيرة كالقرضاوي، أو قامات أخرى شاركت، وأوقفت الحوار لنفس السبب، ولأسباب أخرى.
القرضاوي يدون تجربته ورأيه في الشيعة
ثم بعد ذلك أعلن القرضاوي مرحلة جديدة هي مرحلة: وقف التقريب بين المذاهب الإسلامية؛ سنة وشيعة، وذلك لما أحدثته سياسة إيران وحلفائها، واتجه إلى اتجاه آخر بعد مرور سنوات، وبخاصة بعد عام 2013م، وإتيان مرحلة الثورات المضادة، فبدأ العكوف على كتابة كتاب كبير عن المذهب الشيعي، وخلاصة تجربته في التقريب، وتجارب آخرين سبقوه في نفس المجال، في علاقتهم بالشيعة.
شرع القرضاوي في الخطوات الأولى لكتابه عن الشيعة، الذي كان وقتها للأحداث الجارية أثرها فيه، وهو أمر طبيعي، فالفقيه والمفكر ليس معزولا عن واقعه، وإلا جاءت كتابته منزوعة القيمة والأثر، وقد اعتمد القرضاوي في جل كتابه على كتب المذهب الشيعي، وعاد إلى جل المصادر في الموضوعات التي طرحها، وناقش بإنصاف شديد الآراء الواردة في الموضوع الذي يطرحه من أفكارهم ومعتقداتهم، وقد ركز على الجانب العقدي وجانب الأصول، لأن الخلاف فيه مشكل، والخلاف في الفروع لا إشكال فيه، ومجاله كتب الفقه، وليست كتب العقائد.
عرض أفكارهم لا الحكم عليهم
والحقيقة أن كتاب القرضاوي مر بعدة مراحل فكرية، وغير من خطته بعد أن كان ينتوي أولا أن يعنى بالحكم عليهم، ولكنه اتجه في النهاية اتجاها آخر، وهو الحديث عن منهجهم وأهم أفكارهم، وفيم يختلفون معنا، وبخاصة في قضايا الأصول، ويترك الحكم عليهم، أي أنه اهتم بعرض أفكار القوم، دون الحكم عليها.
ناقش القرضاوي في كتابه ستّ مسائل محددة، وهي: 1ـ موقفهم من القرآن، وهل قالوا بوجود آيات قد حذفت منه أم لا؟ وهل هناك من الشيعة من رد على هذا القول؟ 2ـ موقفهم من مرويات السنة النبوية، التي لدينا في كتبها ودواوينها. 3ـ موقفهم من الصحابة، من حيث الترضي عليهم، وهل يرد في كتبهم لعن لبعض الصحابة، أو لعدد منهم؟ 4ـ موقفهم من الإمامة، وهم يعتبرونها من الأصول، وأن الأحق بها علي رضي الله عنه. 5ـ موقفهم من آل البيت، وتقديس الشيعة لهم. 6ـ مبدأ التقية، وهل يغالي فيه الشيعة أم لا؟
ومع تقديرنا للجهد العلمي المبذول في الكتاب، وعودة القرضاوي إلى كتب المذهب الشيعي، فستظل هناك إشكالية، وهي أن القرضاوي نفسه في رسالته “مبادئ في الحوار بين المذاهب”، تناول بعض هذه المحاور، وكان له رأي معاكس لما انتهى إليه في كتابه الأخير، ونقل عن بعض عقلاء الشيعة، موقفهم من هذه القضايا، متكئا عليه في الدفاع عن موقفه السابق من التقريب بين السنة والشيعة.
لست في سياق مناقشة كتاب شيخنا القرضاوي، وهو يحتاج إلى مناقشة من عدة جوانب مهمة، ليس هنا سياقها، والكتاب خرج بعنوان “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، ومن الواضح من عنوانه، أنه لم يجعل منه عنوان اشتباك، فأراد أن يكون نقاشا هادئا، لموقف علمي، وإن شمل مصارحة ووضوحا من قضايا تراثية ومعاصرة لدى الشيعة، كما حرص على عرض الكتاب على بعض المختصين في الفكر الشيعي، من أهل السنة.
القرضاوي يرفض تكفير الشيعة بالعموم
ناقش القرضاوي الموقف من الشيعة، وقسم المواقف منهم إلى ثلاثة مواقف: موقف الذين يكفرونهم، وموقف من ينظر إلى الشيعة من خلال مواقفهم السياسية فقط، وموقف فئة الوسط كما أطلق عليها القرضاوي، ويعني بهم من يتبنون موقفه، الذي مفاده “أنها الفئة التي تعارض الشيعة فيما تختص به من معتقدات وأصول، وما تتفرد به من سلوكيات أو شعائر؛ مثل الشهادات الثلاث في الأذان، ومثل إحياء البلوى بمصيبة الحسين كل عام؛ مع أن الفقهاء يرون أنه لا عزاء بعد ثلاثة أيام! ولكن هؤلاء لا يصلون بالشيعة إلى حد الكفر البواح، أو الكفر الأكبر، إلا ما لا يحتمل التأويل ويقطع بكفر صاحبه.
وأنا من هؤلاء الذين لا يكفرون عموم الشيعة، ولكن يخالفونهم في جملة قضايا أساسية”.
ويفرق القرضاوي بين الشيعة الإمامية، وبين مذاهب أخرى من الشيعة، كالشيعة الزيدية الذين يعيشون في اليمن، فهو يرى الزيدية أقرب إلى أهل السنة، ولا يرى بيننا وبينهم فرقا كبيرا، لا في أصول العقائد ولا في الفروع. ويرى أن الخلاف بين الشيعة الإمامية وبين أهل السنة، هو خلاف في الأصول لا الفروع، في المبادئ لا في التفصيلات.
خلاصة تجربة القرضاوي ورأيه
عرضت المراحل التي مرت بها علاقة القرضاوي بالشيعة، بكل حياد وإنصاف، وتوخيت ذكر ما أعرفه، سواء من خلال معايشتي للشيخ، أو من خلال قراءتي لكتبه، ومن خلال اللقاءات الشخصية التي كان يتحدث فيها، ومنها ما كتبته، ومنها ما لم يحن وقت إعلانه في الموضوع، لكن معظم ما كتبته، هو الأهم من حيث الفكرة وتاريخها، وهناك خلاصة للموقف، وتوضيح لأمور قد يلتبس بعضها على من يقرأ مرحلة ويقف عندها دون جمع كل مواقف الشيخ ومراحله.
1ـ علينا أن نفرق بين رأي القرضاوي في الشيعة من حيث الموقف السياسي، ومن حيث الموقف الفكري والفقهي والعقدي، وبين موقفه من الشيعة بوصفهم طرفا في المقاومة الإسلامية ضد الكيان الصهيوني، فرغم رفضه ما حدث من عدوان من الشيعة في بلدان سنية، فإنه لم يصمت قط عن عدوان صهيوني على شيعة مقاومة، مع تنبيهه على موقفه السابق من عدوانها.
2ـ موقف القرضاوي من التقريب والتقارب مع الشيعة، فيما أفهمه من كلامه ومواقفه، لم يكن مع التقريب بنفس صيغته القديمة، دون وضوح في الرؤى والمواقف، ومع كل من ينتسب للمذهب الشيعي، ولكنه ظل يدعو إلى التقارب والنقاش مع عقلاء المذهب، كما أكد ذلك في كتابه: “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، حيث قال: “نعم هناك في الشيعة في العراق وإيران تيار إصلاحي في التقارب مع السنة لكنه ضعيف، ومن الواجب على أهل السنة التقارب مع عقلاء الشيعة الإصلاحيين لقطع الطريق على الغلاة”.
3ـ موقف القرضاوي، كان يرى أهمية أن يكتبه، وبخاصة في كتابه الأخير: “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، وكان مصرا على نشره في حياته، أو على الأقل إتمامه، وكثيرا ما حدثه البعض في عدم النشر، أو عدم الكتابة، لكنه كان يرى أن واجبه أن يكتب ما يؤمن به، ويكتب شهادته، وأن يعبر عنه، بحكم رمزيته، فقد كان يعلم ويؤمن بأهمية دوره بوصفه أكبر رمز سني في زمانه، وأن عليه واجبا وأمانة، عبر في كل مرحلة منها، بما يؤمن به، وبما لا يمكنه التعبير بغيره، سواء اتفق معه من اتفق، أو اختلف معه من اختلف.