الذين عادوا من الفضاء!
قبل إعلان نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية بساعات، عاد طاقم المركبة الفضائية الصينية “شنتشو 18” من الفضاء، بعد رحلة استمرت 6 أشهر، قضوها على متن المحطة الفضائية “تياتجونغ”.
استمر الهبوط على الأرض في كبسولة فضائية 9 ساعات، أتاحت للسلطات الصينية فرصة تجهيز فرق إعلامية، للاحتفاء بالرواد الثلاثة فور هبوطهم بصحراء خبي في منغوليا الداخلية، وإذاعة لقاءات حية مع الفريق على قنوات التلفزيون.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلماذا تقتحم الشعوب القصور الرئاسية؟
هل بدأ سقوط الطغاة وانتصار إرادة الشعوب من دمشق!
الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
لم يعد الصعود إلى السماء والهبوط منها حدثا فريدا في الصين، لكن هذه المرة، كان له صدى آخر، فقد تمكن الفريق من القيام بنزهة خارج المحطة الفضائية، وشرعوا ببناء محطة أخرى وتركيب دروع واقعية ضد حرب النجوم والحطام الفضائي، في وقت واجهت فيه المحطة الفضائية، التي تبنيها وكالة “ناسا” الأمريكية بمشاركة 24 دولة، مشكلات فنية أدت إلى بقاء بعض روادها عالقين خارج المركبة لأسابيع، عرَّضتهم للتجمد، لولا تدخل الملياردير إيلون ماسك بإرسال سفينته “سبيس إكس” لإنقاذهم والعودة بهم إلى الأرض قبل أن يلقوا حتفهم في السماء.
عبقرية “ماسك” المدلل
لم يهتم الإعلام الغربي بنبأ عودة “شنتشو 18” من السماء، حيث انشغل على مدار الساعة بمتابعة الانتخابات الرئاسية التاريخية، فلم يظهر للرحلة المهمة أي أثر إلا بمواقع الأبحاث العسكرية وشؤون الطيران والفضاء الأمريكية، بينما فطن الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى خطورتها.
في أول خطاب لترامب لإعلان فوزه بالانتخابات، الثلاثاء الماضي، قال إنه كان يشاهد اختبارا لصاروخ “سبيس إكس” القادر على الصعود إلى الفضاء والهبوط بسلاسة إلى قاعدة الإطلاق، معلنا إعجابه بدور هذا النوع من التكنولوجيا في إنقاذ رواد الفضاء وملايين الأمريكيين، أثناء هبوب الأعاصير بولايات الجنوب الأمريكي مؤخرا، ومناطق الحروب والكوارث في العالم، ساعدت بالتواصل عبر شبكات اتصال “ستارك لينك” التي تطلقها صواريخ “سبيس إكس”، فأشعرت ترامب بأنه يعيش بداية عصر الفضاء، فأجرى اتصالا فوريا بمالك شركة “سبيس إكس” إيلون ماسك ليطمئن منه، قائلا “هل يستطيع أحد أن يفعل ذلك غيرك؟ هل تستطيع روسيا القيام بذلك؟ هل تستطيع الصين فعل ذلك؟”. عندما أكد له “ماسك” أنه يملك تلك التكنولوجيا منفردا، قال له ترامب “أحبك يا إيلون. أنت عبقري!”.
قد يرى البعض وصف ترامب لحليفه السياسي القادم من عباءة خصمه الحزب الديمقراطي نوعا من التدليل، بعد أن أصبح من أهم داعميه الماليين في الانتخابات، وحشده لترامب كبار المليارديرات ومُلاك شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بما مكنه من الهيمنة على الرئاسة والكونغرس وتوجيه هزيمة قاسية للديمقراطيين، لكن تعبيرات ترامب كانت تعكس شعورا بالقلق على “ناسا” ورغبته في التفوق التكنولوجي، الذي يعمل منذ ولايته الأولى على ألا يمتلكه أحد غير الولايات المتحدة، وخاصة الصين.
حرب الرقائق والفضاء
بينما كان تلفزيون الصين يذيع لقاء مع العقيد يي قوانغ فو مدير فريق المركبة “شنتشو 18” -الذي قضى من قبل 6 أشهر في الفضاء- بتأكيده أن الصين عازمة على بناء قوة فضائية عظيمة، كانت بورصة شغنهاي وهونغ كونغ تسجل تراجعا كبيرا لأسهم الشركات الصينية خاصة التكنولوجية، متأثرة بتباطؤ النمو واضطراب سوق العقارات والتوظيف وأزمة اقتصادية عميقة منذ انتشار وباء كوفيد-19، والأهم ما أصاب المستثمرين من صدمة عقب إعلان فوز ترامب، دفعت أجانب إلى تجهيز حقائبهم ومغادرة الصين. في الوقت نفسه، كان مؤشرات البورصات الدولية تعكس انتعاشا كبيرا بأسعار أسهم الشركات الأمريكية للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بعد خسائر فادحة حققتها نهاية الصيف الماضي.
تُظهر أسواق المال ما يخفيه الساسة، تتنبأ بحرب مستقبلية بين الولايات المتحدة والصين، يدفع ثمنها مستهلكو المنتجات التكنولوجية في العالم خاصة النامي والفقير من أمثالنا.
بدأت حرب باردة بإطلاق ترامب “حرب الرقائق” عام 2017، وفرض قيود على تشغيل وإمدادات شركة ” هاوا وي” للاتصالات، داخل الولايات المتحدة وحلفائها. ابتدع ترامب عقوبات حظر التكنولوجيا للحد من تقدّم الصين، واصلها “بايدن” بإصدار قوائم الحظر على الشركات، ومنع اليابان وهولندا من بيع المعدات اللازمة لتصنيع الرقائق الفائقة التقنية وأشباه الموصلات إلى الشركات الصينية أو الدول المتعاملة معها عبر طرف ثالث.
بوابة واشنطن
اعتاد ترامب اتهام الصين بسرقة التكنولوجيا الأمريكية وإعادة تصدير ما تصنعه بتكنولوجيا مسروقة إلى السوق الأمريكية والعالم، لتحقيق مكاسب طائلة، لذلك وضع في برنامجه الانتخابي خطة لإعادة بناء مراكز صناعة أشباه الموصلات داخل أمريكا.
يفرض ترامب الهيمنة التكنولوجية بكل ما تملكه واشنطن من قوة مادية وعسكرية، وسيطبق جمارك على المنتجات الصينية بنسبة 60% للحيلولة دون تدفقها إلى السوق الأمريكية، وبسعر منافس، تصل إلى 200% في حال استيلائها على تايوان. يرفع ترامب شعار لتعود أمريكا القوية، بما يحمله المعني من صلف ورغبة جامحة للسيطرة على العالم.
تقاوم الصين تلك الضغوط بتقوية صناعاتها وتطويرها بتكنولوجيا رخيصة تُفزع المنتجين الغربيين، مع قدرتها على بناء شبكات مصالح وتحالفات مالية واقتصادية مع دول تبحث عن التكنولوجيا بعيدا عن القيود والاستقطاب الأمريكي. يرى ترامب -مثل غيره من قادة الأنظمة الشعبوية- أن أي إنجاز تكنولوجي أو اقتصادي للآخرين بمنزلة تهديد لأمنه القومي، مستهدفا الدعم السياسي والمالي لمشروعه “حرب الفضاء” الذي شكَّل من أجله أول فرقة عسكرية فضائية، ويؤمن بأن نجاحه لا يتوقف فقط عند الحظر التكنولوجي على الصين وغيرها من المنافسين أو الأعداء المحتملين، بل للحيلولة دون استفادة أي دولة أخرى من التطور التقني، إلا عبر بوابة واشنطن ووفق شروطها.
الفائزون والخاسرون
يدعم ترامب حالة انقسام العالم بين شرق وغرب، متجاهلا خطر خروج أمريكا على عولمة ابتدعتها، في مواجهة الأسواق المغلقة، بما يقضي على حرية السوق، ويرفع من أسعار السلع و”مخاطر العزلة” التي حذرت منها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، في مقال أخير بمجلة (فورين أفيرز)، قائلة “العالم بحاجة إلى أمريكا، وأمريكا لا تزال بحاجة إلى العالم”.
من ناحية أخرى، اعتاد النظام الصيني تحويل الضغوط الأمريكية إلى مكاسب سياسية، بإثارة النعرة القومية، وتخويف المواطنين على ما حققه الحكم الشيوعي من إنجازات جعلته يبدو نظاما مثاليا بنظر الشعوب النامية والغاضبة من الغرب. يستقبل الصينيون حديث ترامب عن سباق الفضاء والتكنولوجيا بحفاوة، لدفع الشركات المحلية نحو الابتكار والإبداع وجذب العقول المهاجرة التي تشارك مع الهنود في إنتاج 20% من الاختراعات داخل الولايات المتحدة سنويا.
تُظهر الأرقام أن واشنطن تنفق 3 أضعاف ميزانية بيجين العسكرية ومثلها في برامج الفضاء، وتحتل صدارة ملكية الأقمار الصناعية بعدد 3433 قمرا بينما الصين لديها 541 قمرا. تدير واشنطن 13 مقرا لإطلاق صواريخ فضائية أكثر دقة وتقنية، مقابل 4 للصين، وبينما توجه بيجين 84% من تجاربها الفضائية للناحية العسكرية، تخصص واشنطن 61% من عمليات الإطلاق للنواحي التجارية والأكاديمية والاتصالات.
تعمل الصين في برنامجها منفردة، بينما تدير واشنطن تحالفا من 24 دولة ضمن اتفاقية “أرتميس” لإدارة محطة فضاء دولية تخطط للعودة إلى القمر والوصول إلى النجوم عبر نظام تكنولوجي معقد، تظل فيه الولايات المتحدة زعيما بالقوة. تبدو حرب الفضاء وسيلة سباق بين طرفين يجنيان ثمار نفوذهما، من ثروات شعوب لا تستطيع بلوغ الفضاء، وحكومات لا ترى ما تحت قدميها.