بين تونس ولبنان.. هل الديمقراطية جيدة للمقاومة والحرب؟
سخر صديقي من أي كلام عن الديمقراطية بمجتمعاتنا في ظل الحرب الجارية بالمنطقة، وعلى لبنان وغزة، وتساءل مستنكرًا، وهو يستعين بمأثورة عبث النقاش حول جنس الملائكة، والمستنكرة للخلاف في الرأي في وقت الأزمات والملمّات:
ـ أنكشِف للعدو عن خياراتنا ونقاط ضعفنا أم تنتظرنا طائراته ودباباته وصواريخه حتى ننتهي من النقاشات الديمقراطية، ونصوت عليها لحسمها؟
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل بدأ سقوط الطغاة وانتصار إرادة الشعوب من دمشق!
الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
أين الله مما يحدث لسوريا؟ وجاء الجواب!!
والحقيقة أن هذه السخرية تستدعي -على خلافها ونقيضًا لمنطقها- تاريخًا طويلًا من استغلال السلطات المستبدة عندنا منذ أربعينيات القرن العشرين القضية الفلسطينية والمواجهة مع الاستعمار وخصوصًا الاستعمار الصهيوني، لضرب صعود الحركة الجماهيرية وتقويض هوامش الحريات والمؤسسية المنتزَعة عبر عقود من النضال من أجل الحريات والحقوق والمواطنة.
لعل المفارقة التي تستدعي التأمل والدراسة هي: كيف افترق ما كان من تلازم وتكامل للتحرر من الاستعمار والديمقراطية معًا في نضال أجيال بالمشرق العربي؟ حين خاضت جيوش سبع دول عربية حرب 1948، والبلاد ما زالت تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي بعد، أو حصلت بالكاد على استقلال شكلي مثل الجمهوريتين اللبنانية والسورية.
لو خصَّصنا هذا المقال لَما أسعفتنا مساحته لسرد الوقائع الموثوقة من فرض الأحكام العرفية إلى العبارة الأيقونة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” مرورًا بالانقلابات العسكرية. وهكذا الحال مع كل حرب، وبعد كل هزيمة لنظام عربي.
تونس بين أمل الديمقراطية وإجهاضها
لنأخذ الآن حالة تونس أمل التغيير الذي كان يلوح باتجاه الديمقراطية والمواطنة والمؤسسية وتداول السلطة بالعالم العربي في القرن الحادي والعشرين، وهذا قبل أن يتلاشى بفعل عوامل معاكسة داخلية، وأيضًا إقليمية وأوروبية أمريكية.
يوم 10 من أكتوبر/تشرين الأول 2024، ووسط زخم أخبار الحرب في لبنان وغزة وتطورات تونس بعد الانتخابات الرئاسية، صدر بيان من 11 نائبًا من إجمالي 161 في برلمان الرئيس قيس سعيّد، يدعو إلى الكف عن المعالجات الأمنية والقضائية لملفات نصرة القضية الفلسطينية، وذلك على خلفية اعتقال متضامنين مع غزة ولبنان لنحو يوم واحد بعد مشاركتهم في احتجاج أمام مركز الجامعة العربية في تونس إحياءً لذكرى “طوفان الأقصى”. كما يجدد البيان المطالبة بسن البرلمان التونسي قانونًا، تم الغدر به مرارًا، يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ولا أعرف هل هي محض مصادفة أن يجرى الاعتقال في يوم إعلان فوز الرئيس سعيّد بولاية ثانية (بنسبة تفوق 90%)، وكي يتأكد عودة تونس إلى أحضان الأنظمة العربية غير الديمقراطية، و”للخلف دُر” إلى ما قبل عشرية الثورة والتحول إلى الديمقراطية، ومع مجاهرة مناصريه بأنها ولاية أولى بعد دستور 2022 ما يفتح الباب لولاية ثالثة.
قيس ضد التطبيع ومعه!
خلال عشرية ما بعد الثورة التونسية، حضرتُ -مراسلًا صحفيًّا في تونس- ندوات شارك فيها قيس سعيّد أكاديميًّا مناصرًا للقضية الفلسطينية ومناهضًا للتطبيع، وهذا قبل أن يصبح رئيسًا للدولة، وينقلب على كل ما قال، وحتى على ما صرَّح به خلال حملته لانتخابات رئاسة أكتوبر 2019 “التطبيع خيانة عظمى”، ويتدخل بنفسه وعلنًا لدى برلمانه ليمنع التصويت على مشروع قانون تجريم التطبيع.
بالموقع الإلكتروني للسفارة الأمريكية في تونس (30 من أغسطس/آب 2024) نص حوار للصحافة التونسية مع السفير “جون هود” يتضمن إجابات ذات دلالة، على الرغم من المراوغة والتكتم عن دور واشنطن في منع تمرير القانون، واستحداث مركز تدريب عسكري إقليمي أمريكي فوق ترابها.
وكانت البرلمانات السابقة على برلمان سعيّد قد أخفقت بدورها في البلوغ بقانون تجريم التطبيع مرحلة التصويت في جلسة علنية. وبالطبع هذا الإخفاق محل انتقاد ولوم لقوى البرلمان الأكبر، وعلى رأسها حزب “حركة النهضة”.
لكن لنقارن ما أصبح عليه حال تونس والتونسيين الآن مع عدوان صهيوني فاق كل ما عرفته فلسطين ولبنان خلال عشرية ما بعد الثورة التونسية، وكيف تراجع ما كان من زخم التضامن والتفاعل ضد الصهيونية نقابيًّا وشعبيًّا ورسميًّا وفي الفضاءات العامة، وحتى بمدارس البلدات الصغيرة النائية في أقاصي البلاد؟ وهو ما كنت شاهدًا عليه هناك من ميادين العمل الصحفي، وبخاصة مع حدث نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتراف واشنطن بها عاصمة لإسرائيل عام 2018. وحقًّا كان مبهرًا إذا ما قورن بأحوال البلدان العربية المنزوعة أمل الديمقراطية، وحتى ما يُدعى منها “الممانعة”.
لبنان دولة أقل تسلطًا مع مقاومة ومقاطعة أقوى
أما لبنان الذي ظل تاريخيًّا يتمتع نسبيًّا بهامش حريات أوسع في محيطه العربي وبسلطة دولة أقل تسلطًا، وعلى الرغم من عِلل الطائفية وأمراضها، فظل بإمكانه إفساح مجال للمقاومة المسلحة الأكثر استمرارًا وإيلامًا للعدو بين دول ما تُسمى “المواجهة” فـ”الطوق” فـ”الجوار” مع إسرائيل. وهو أيضًا وإلى اليوم ما زال لا يعترف رسميًّا بالكيان الصهيوني، ويجرّم التطبيع معه. بل ويتجلى، في الملمّات الصعبة كما الآن، كيف أن المقاطعة خيار شعبي يتجاوز الطوائف والأحزاب.
واقع المقاومة بالسلاح في لبنان معلوم، وبخاصة بعد الانسحاب من الجنوب في صيف عام 2000، انتصارات وإيجابيات، وأخطاء وخطايا، وأعباء لا يرى كل اللبنانيين الاستمرار في تحمُّلها، ووعيًا باستهداف لبنان بالاعتداءات الإسرائيلية منذ 1948 وقبل حزب الله.
حق يراد به باطل
ثمة الآن حديث حق يراد به باطل، يستخف بالديمقراطية، ويعصف بها ويلغيها، لأن حكومات غربية تتنكر لحقوق الإنسان والحريات إزاء فلسطين ولبنان بالمقارنة بأوكرانيا، ومع اختبار ما أصبح يوصف الآن بأكبر كارثة إنسانية وانتهاك للقوانين الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الحديث ما يسمح بإدامة الاستبداد العربي، وكذلك منطق غير علمي وغير عقلاني يعتمد التعميم المضلل حين يرى كل الغرب سواءً. وكأن المطلوب أن نكفر بالديمقراطية ولا نعمل لأجل بلوغها في مجتمعاتنا، ولكي تبقى دومًا إسرائيل العنصرية الإرهابية مع حلفائها المجرمين على الزعم الكذب أنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
ويحق التساؤل: ألا نتعلم من خبرات التاريخ عندنا وعند الغرب؟ وما يفيد بالوثائق ولمؤرخين محترمين أن القوى السياسية والمثقفين الأكثر إخلاصًا للديمقراطية كانوا مع فلسطين وضد الصهيونية، بينما القوى الأوتوقراطية داعمة الاستبداد هي حليفة الاستعمار الأجنبي، والأكثر قبولًا بالمشروع الصهيوني منذ بداياته.
ولاحقًا اتضح بخبرات معاهدات الصلح والاعتراف بإسرائيل والتعايش مع عنصريتها وإرهابها، وانطلاقًا من حالة مصر منذ السبعينيات، بأن التطبيع مع الكيان غير الطبيعي لا يجلب ديمقراطية، بل المزيد من القمع وانتهاك الحقوق والحريات والفساد. وببساطة لأن الصلح والتطبيع خيار سلطوي غير شعبي ولحكم الفرد، يسقط في أي اختبار بآليات الديمقراطية غير المزيفة أو المقيدة.
أما عندهم في الغرب، فتظل القوى الديمقراطية والمدافعة عن حقوق الإنسان غير حليفة أو متواطئة مع الطغاة في منطقتنا والعالم، وهي نفسها الأقرب إلى مناصرة الشعبين الفلسطيني واللبناني، والأوضح في رفضها للصهيونية وعنصريتها وإجرامها.
ويا صديقي العزيز..
لا تعني الديمقراطية في زمن الحرب بالطبع كشف أسرار حربية أو إضعاف الوحدة في مواجهة الأعداء، إذا ما أردنا وحدة وطنية حقيقية قائمة على اتفاق مواطنين أحرار وتنظيماتهم. بل إن الكثير من الديمقراطية، وليس فقط القليل منها، يُصلح النضال والمقاومة، ويصحح السلبيات والخطايا.
لذا أجدني مع الدكتور المنصف المرزوفي، رئيس تونس في زمن الانتقال الأهم عربيًّا إلى الديمقراطية، اليساري العلماني من طراز خاص، حين قال أخيرًا إن غياب الديمقراطية هو سبب كوارثنا، وما يجري لفلسطين ولبنان اليوم.