درس أمستردام ودماء غزة التي تطارد الإسرائيليين
ما تعرَّض له الإسرائيليون في أمستردام على أيدي هولنديين مسلمين وغير مسلمين من مناهضي الإبادة ورافضي الحرب في غزة مجرد بداية لما ينتظرهم من غضب الشعوب، فقتل المدنيين وسفك دماء الأطفال والنساء جرائم وفظائع بربرية، وليست بطولات كما توهَّم مشجعو فريق “مكابي تل أبيب”، الذين أظهروا ما في قلوبهم من غل وعدوانية في مناسبة رياضية لا صلة لها بالصراعات السياسية، فعوقبوا وتلقوا صفعة جعلتهم يعيشون ليلة من الرعب والإذلال لم يتوقعوها.
جاء الحدث عفويًّا من دون أي ترتيب سابق، بسبب الغطرسة التي أظهرها مشجعو الفريق الإسرائيلي، فمنذ وصولهم إلى العاصمة الهولندية وهم لا يحترمون أحدًا حتى الدولة المضيفة، ففي الملعب الذي يشهد المباراة مع فريق أياكس الهولندي -الذي هزم فريقهم بخمسة أهداف- لم يحترموا قرار الصمت حدادًا على ضحايا فيضانات فالنسيا الإسبانية، وخارج الملعب رددوا هتافات ضد العرب ودعوا جيش الاحتلال إلى قتلهم، وأنشدوا ضد غزة، ومما قالوا “لم يعد بها مدارس بعد قتل أطفالها”!
اقرأ أيضا
list of 4 itemsثورة سوريا… بين هروب الأسد وظهور الضباع
الثورة السورية من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
المعارضة السورية تسترد الدولة وتقطع الطريق على التقسيم
لم يكتفوا بالكلام البذيء وترديد الهتافات العنصرية العدوانية في الشوارع، فبدؤوا يستخدمون العنف ضد سيارات الأجرة التي يقودها سائقون عرب، ثم الصعود على واجهات المنازل لتمزيق الأعلام الفلسطينية، فأثاروا الهولنديين من أصل عربي خاصة المغاربة وطيفًا واسعًا من مؤيدي غزة، فنزل شباب المدينة وطاردوهم في الشوارع وأوسعوهم ضربًا وركلًا، وانتشرت الصور ولقطات “الفيديو” التي أظهرت جبن الإسرائيليين.
رعب في إسرائيل
وسط الشماتة العالمية على مواقع التواصل، شعر قادة الاحتلال بالإهانة، فتعرُّض المشجعون الإسرائيليون للضرب في عاصمة أوروبية ما كان له أن يحدث من قبل في ظل الهيمنة الصهيونية على أوروبا، فتحركت الحكومة الإسرائيلية وقيادات المنظمات اليهودية في الغرب للضغط على الحكومة الهولندية لإنقاذ المشجعين مما أطلقوا عليه “مذبحة”، وأرسلوا طائرات لإعادة المشجعين.
شعر الاحتلال بخطورة ما جرى، وإمكانية تكراره في عواصم أوروبية أخرى، خاصة مع اتساع حركة التضامن مع غزة، وفشل التحريض الصهيوني في شيطنة المسلمين مع انضمام قطاعات وأحزاب أوروبية مؤثرة لتأييد الحق الفلسطيني، لهذا توجَّه وزير الخارجية الإسرائيلي ورئيس الكنيست إلى أمستردام، واتصل الرئيس الإسرائيلي ونتنياهو بالقادة الهولنديين لتحريضهم على المسلمين، وعرضوا تقديم المساعدة في إلقاء القبض على المتهمين بمعاداة السامية، وطلبوا الحضور في التحقيق معهم!
رغم الأدلة والمقاطع المصوَّرة التي تثبت أن مشجعي تل أبيب هم الذين بدؤوا الشغب والاعتداءات وأغضبوا الهولنديين؛ فقد تدخّل القادة الأمريكيون والأوربيون كعادتهم لصالح الإسرائيليين، ويبدو أن صيغة إدانة موحَّدة وُزعت عليهم، فالرئيس الأمريكي بايدن قال “إن الهجمات المعادية للسامية شنيعة وتذكّرنا بلحظات مظلمة في التاريخ، ويجب علينا محاربة معاداة السامية باستمرار أينما ظهرت”، وقال الرئيس الفرنسي ماكرون “إن العنف ضد المواطنين الإسرائيليين في أمستردام يذكّرنا بأحلك ساعات التاريخ، وسنواصل مكافحة معاداة السامية الشنيعة”.
فيلدرز والحكومة الهولندية
أدان الملك الهولندي وليم ألكسندر ما جرى، وكذلك فعل رئيس الوزراء الجديد ديك شوف، لكن الإسرائيليين تواصلوا بشكل خاص مع رجلهم في هولندا، وهو السياسي المتطرف المعادي للإسلام خيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية الذي تصدَّر الانتخابات الأخيرة، وضغطوا لتوسيع حملة الاعتقالات ضد المسلمين بمزاعم مكافحة السامية، لكن تركيبة الحكومة الحالية تعوق الأمنيات الإسرائيلية.
رجل إسرائيل في هولندا لم يستطع أن يصل إلى منصب رئيس الوزراء رغم أنه رئيس الحزب الفائز في الانتخابات، فلم يوافق رؤساء الأحزاب الذين شكلوا الائتلاف الحاكم الذي يتكون من 4 أحزاب على أن يتولى فيلدرز الرئاسة، وظل يحاول لمدة 7 أشهر وفشل، مما اضطر الملك في النهاية بالتنسيق مع الأحزاب إلى إسناد الوزارة لرئيس المخابرات الهولندية السابق ديك شوف الذي لا ينتمي إلى أي حزب.
أظهر فشل فيلدرز في تشكيل الحكومة رفض السياسيين الهولنديين لأفكاره التي تسبب الانقسام وتثير الفتنة في المجتمع الهولندي، فقد كان يدعو إلى إغلاق المساجد وتجريم من يحمل المصحف وطرد المسلمين المواطنين وطالبي اللجوء، وحتى أفكاره ضد المهاجرين اضطر إلى تخفيفها للحفاظ على التكتل الحكومي ومنعه من الانهيار.
ونظرًا لعدم تجاوب السلطات الهولندية مع التحريض الإسرائيلي، وجَّه فيلدرز الانتقادات إلى قائد الشرطة الذي قال إن مشجعي الفريق الإسرائيلي هم الذين بدؤوا بالاستفزاز، كما وجَّه فليدرز انتقادًا لاذعًا إلى عمدة أمستردام اليسارية فيمكي هالسيما؛ لأنها ترفض منع المظاهرات التي تطالب بوقف الحرب، ووصف أمستردام بأنها أصبحت “غزة أوروبا”!
تحولات الرأي العام الأوروبي
يكشف درس أمستردام قوة الارتدادات الشعبية العالمية على ما يجري في غزة، وهو “بروفة” لما يمكن أن نشاهد مثله في العواصم الأوروبية الأخرى، فإسرائيل أصبحت كيانًا منبوذًا، وهذا يظهر بوضوح في المظاهرات المليونية التي تخرج كل يوم سبت في العواصم الغربية، يشارك فيها سياسيون ونخبة المجتمعات من كل الألوان وجميع الأديان، وتشارك جماعات يهودية في الاحتجاجات لتأكيد الرفض للتوحش الصهيوني.
خسر الإسرائيليون الكثير من الساحات في أوروبا وأمريكا، ولم يعد ممكنًا السيطرة على موجة الاحتجاجات المعادية للحرب، كما لم يعد الاتهام بمعاداة السامية يخيف المناصرين لغزة، ولا حتى في ابتزاز الحكومات الغربية، فالتحولات الشعبية بسبب الصدمات مما يجري ضد الفلسطينيين أنتج تيارًا عالميًّا معاديًا للصهيونية، وهذا التيار الواسع أسقط الحكومات في بريطانيا وفرنسا، وأسقط المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الولايات المتحدة.
لم يعد الإسرائيلي مُرحَّبًا به في أي دولة، وما شاهدناه في هولندا سيتطور إلى الأسوأ، ولن يكون في مقدور أي إسرائيلي المجاهرة بجنسيته أو التحرك بحرية في أي مدينة بالعالم، ليس فقط بسبب كراهية الشعوب لهم، وإنما بدوافع الخوف التي ستسيطر عليهم حتى لو لم يكن في المدينة التي يذهبون إليها مؤيد لغزة.
لن تمر الإبادة بلا ثمن، وإذا كان الفلسطينيون المحاصَرون لا يملكون الأسلحة التي يدافعون بها عن أنفسهم فإن خزان الكراهية الذي ينتظر الإسرائيليين سيحوّل حياتهم إلى جحيم، وستطاردهم لعنة غزة في كل مكان.