الأوطان المتأرجحة!

صورة متخيَّلة تجمع الرئيسين بايدن وترامب في لقاء تسليم السلطة (الفرنسية)

يثير مصطلح “الولايات المتأرجحة” أو “swing states” إعجابًا بحيوية الديموقراطية الأمريكية، وقدرتها على الاحتفاظ بالإثارة خاصة في الانتخابات الرئاسية التي يتسيدها الحزبان الديمقراطي والجمهوري وتجري بالتزامن كل سنوات أربع في خمسين ولاية، تتفاوت في مساحتها وعدد سكانها وممثليها في ما يُعرف بـ”المجمع الانتخابي”.

ولا يمتد التباين إلى الجغرافيا والديموغرافيا فقط وإنما يزحف إلى الأهمية النسبية التي تتمتع بها كل ولاية في الانتخابات الأمريكية، فولاية مثل فلوريدا التي تقع في أقصى جنوب شرقي الولايات المتحدة، ليست مهمة بالنسبة للديمقراطيين رغم أنها تملك أربعين مندوبًا في المجمع الانتخابي، لأنها تميل إلى الجمهوريين بوضوح منذ نحو ربع قرن، وبالتوازي فإن ولاية كاليفورنيا التي تتمدد على الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية وتملك أربعة وخمسين مندوبًا في المجمع الانتخابي ليست مهمة بالنسبة للجمهوريين لكونها ولاية مستقرة للحزب الديمقراطي منذ عقود.

اللافت أن بعض هذه الولايات حتى لو كانت صغيرة فإن لديها القدرة على حسم السباق إلى البيت الأبيض ليتجه مقعد الرئيس نحو أي من مرشحي الحزبين الكبيرين، مثل “نيفادا” وهي إحدى ولايات الغرب الأمريكي التي تملك ستة أصوات فقط في المجمع الانتخابي لكنها تتأرجح بين مناطق ريفية شاسعة تميل إلى الجمهوريين ومدن تتجه إلى الديمقراطيين.

صغيرة لكنها مؤثرة

لكل صوت قيمة في النظم الديمقراطية، ويتجلى هذا بوضوح في نيفادا التي تقع فيها لاس فيغاس المعروفة بأنها “عاصمة القمار” في العالم، لكن الإثارة تكتمل حين نعرف أن مقاطعة واشو التي يقطنها نحو نصف مليون نسمة يمثلون أقل من 16% من سكان ولاية نيفادا، البالغ عددهم 3.1 ملايين نسمة تؤدي دور الحسم في ولاية تنقسم بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري دون تفضيل قاطع لأيهما، إذ ينتمي ثلثا الناخبين إلى الحزبين بالتساوي تقريبا بينما يظل الثلث المرجح من المستقلين في المنطقة الوسطى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

وتسمح نيفادا لسكانها غير الموافقين على أي مرشح بالتصويت لخيار “لا أحد من المرشحين”، وهو احتمال تتيحه قوانين الولاية رسميًّا على بطاقات الاقتراع.

تاريخ المصطلح

يُستخدم المصطلح في الانتخابات الأمريكية للإشارة إلى الولايات التي لا تكون فيها الأغلبية واضحة لصالح حزب معيَّن، كما أنها لا تصوت بوتيرة مستمرة لصالح حزب واحد، ويمكن أن تتأرجح بين الحزبين من دورة انتخابية إلى أخرى.

يُعَد مفهوم “الولايات المتأرجحة” قديمًا، إذ يعود إلى السنوات الأولى من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي بدأت عام 1788، لكنه تكرس في الانتخابات التي جرت عام 1800 بين الرئيس الثاني للولايات المتحدة جون آدامز ونائبه توماس جيفرسون، وانتهت بعد اقتراع في مجلس النواب لصالح الأخير، حيث لفت التنافس الشديد بينهما وحملات الدعاية الهجومية والاستقطاب بين الرئيس ونائبه النظر إلى ولايات يتحدد الفائز من خلالها، وهو ما أدى إلى محاولات اتباع نهج أكثر تنظيمًا لجمع البيانات عن أعداد الناخبين واتجاهاتهم والقضايا التي تحكم تصويتهم.

حضور المصطلح

أصبح النقاش العام والحزبي حول “الولايات المتأرجحة” أكثر وضوحًا إبان الحرب الأهلية (1861-1865) بسبب الانقسام والاستقطاب، لكن “الولايات المتأرجحة” ظهر مصطلحًا لأول مرة في صحيفة نيويورك تايمز عام 1936 أثناء حملة المرشح الديمقراطي فرانكلين روزفلت الذي فاز على الجمهوري ألف لاندون.

تكرس استخدام المصطلح عام 2000، وأصبح حاضرًا بقوة في الانتخابات التي شهدت تقاربًا في أصوات المجمع الانتخابي، حسمته في النهاية ولاية كانت متأرجحة وقتها هي فلوريدا، التي فاز فيها بعد أسابيع من الجدل والفرز البطيء الجمهوري جورج بوش الابن على الديمقراطي ألبرت آل غور الذي كان نائبًا للرئيس الأمريكي بيل كلينتون (1992-2000).

وقد كانت هذه الانتخابات تاريخية بعد أن حُسمت في فلوريدا، ومن ثم حددت من يسكن البيت الأبيض بفارق نحو 537 صوتًا فقط لبوش، بعد دعاوى في محاكم الولاية أقرت إعادة الفرز الذي طلبه الديمقراطيون، لكن المحكمة العليا التي هيمن عليها الجمهوريون وقتها أوقفت إعادة الفرز التي طلبها آل غور، ليفوز بوش الابن بالرئاسة رغم خسارته التصويت الشعبي لصالح منافسه، وقد كان هذا درسًا مهمًّا في تكريس النظام مهما اعتقدنا أنه غير عادل، وفي توقير القضاء مهما رأينا أنه غير نزيه، وفي احترام إرادة الناخبين مهما كانوا أقلية.

استدعاء الشجن

ماذا عساه أن يشي مصطلح “الولايات المتأرجحة” بالنسبة للمشاهدين في مدرجات ساحات “العالم الثالث” الذين يتابعون مقاطعات صغيرة عدد سكانها بالآلاف تكتسب أهمية تجعلها ممرًّا رئيسًا لمقر الحكم الأكثر نفوذا في العالم؟ بينما عشرات وربما مئات الملايين في دول أخرى أصواتهم مجرد أصفار على يسار الوطن، دون قيمة تُذكر أو حضور مطلوب.

ما هو المستقر وما هو المتأرجح في بلادنا؟

التفكير في إجابة مقنعة أو قاطعة عن هذا السؤال تستدعي حديثًا ذا شجون، يطوف متأرجحًا بين دهاليز الساسة وأوجاع المواطنين، لكنه سيتكسر حتمًا على صخرة الحجج الواهية والقوى العالمية وجوائح السياسة وحوائج الاقتصاد.

أين يستقر الاقتصاد؟

تعاني الدول العربية في مجملها عجزًا مستقرًّا في ميزانياتها، وقد يختلف العجز بشكل كبير بين البلدان العربية اعتمادًا على ظروف كل بلد اقتصاديًّا من حيث الناتج المحلي وموارد الدولة وحجم التضخم وأسعار الفائدة، أو بسبب عوامل خارجية مثل ارتفاع أسعار النفط أو انخفاضها.

وبينما كان العديد من الدول العربية التي تعتمد على صادرات النفط، تتمتع تاريخيًّا بفوائض كبيرة في الميزانية، إلا أن العجز في الميزانية أصبح حاضرًا في السنوات الأخيرة بسبب تقلبات أسعار النفط وزيادة الإنفاق العام.

وبالتوازي فإن دولًا غير نفطية مثل مصر ولبنان وتونس تكابد عجزًا مستمرًّا في الميزانية بسبب ارتفاع الدين العام والضغوط الاقتصادية وانخفاض قيمة العملة المحلية أو الإنفاق على مشروعات كبرى بصرف النظر عن جدواها أو العائد منها.

كما أن دولًا مثل السودان واليمن وسوريا وليبيا والعراق تعاني حروبًا أهلية أو اضطرابات على أقل تقدير.

وفي المجمل فإن الاقتصادات العربية مستقرة في مناطق العجز، لكنها تتأرجح فقط بين العجز والعجز الكبير.

متى تأتي السياسة؟

تعجز نظريات العلوم السياسية عن وضع توصيف دقيق لكثير من الأنظمة السياسية في وطننا العربي، وكذلك في أنظمة الدول القابعة في الأقاليم المتاخمة في آسيا وإفريقيا حيث يختلط الحاكم والحزب وتذوب الإرادات.

وبينما يستهلك الحديث عن الإنجازات ومحافل تدشين التطور ودفع التنمية والأدوار التاريخية معظم الخطاب الإعلامي، فإن الواقع يشي بعكس ذلك من زيادة المنسحقين تحت حد الفقر وافتقاد الجودة في التعليم والصحة وانتشار الفساد، فضلًا عن ضعف عام في الإرادة السياسية واضطرابات في استقلال القرار الوطني.

ولا يمكن الجزم بتوجه كثير من الأنظمة، وما إذا كانت تتبع النظام الليبرالي واقتصاد السوق الحر أو تقر تدخل الدولة في ملكية وسائل الإنتاج وحاضنتها السياسات الاشتراكية، وفي هذا فإن الأنظمة تستقر على الأوضاع المختلطة دون تفضيل لرسم طريق واضح يمكن وصفه وتصنيفه.

وفي قضايانا الكبرى، مثل الصراع العربي الإسرائيلي أو مكافحة الفساد والبيروقراطية أو الاستقلال الوطني، سنجد أن المستقر هو الإسناد بالبيانات أو المكافحة بالخطب أو الادعاء بالشعارات، دون أي تفكير في كيفية المغامرة والمغادرة.

ستظل الولايات المتأرجحة مهمة في أمريكا وحاسمة في تقرير مصير ساكن بيتها الأبيض، بينما سنظل نبحث عن أوطان مستقرة لا تتأرجح بين الفعل والسكون أو بين اليقظة والمنام أو بين عبادة الله وتقديس الحاكم الفرد.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان