انتكاسة العولمة الإمبريالية وعودة المستوطنين البيض
أسفرت الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية الأمريكية عن انتكاسة بالغة لمعسكر العولمة الإمبريالية بأمريكا، وعودة معسكر المستوطنين البيض الأنكلوساكسون البروتستانت (WASP) إلى قمة السلطة التنفيذية في البيت الأبيض، والسلطة التشريعية بمجلسَي الشيوخ والنواب، وأغلبية حكام الولايات والهيئات المحلية المنتخبة.
بعد أربع سنوات من كوارث إدارة بايدن، داخليا وخارجيا، لم يكن لمعسكر العولمة الإمبريالية أن يعاد انتخابه بقيادة كامالا هاريس برماديتها وشراكتها في الإبادة الجماعية، ولا سجل مشرفا لها بأي قضية، ولا وعود تغيير مُصدَّقة بعد خيبة أمل في إرث إدارتَي أوباما وبايدن.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالثورة السورية من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
المعارضة السورية تسترد الدولة وتقطع الطريق على التقسيم
من تحرير سوريا.. إلى بيع عبد الناصر!
أما بايدن الغائب عن دائرة الوعي والقرار، فقد دشنت إدارته حربا عالمية باردة أخرى لاستدامة الأحادية القطبية، بلا رغبة لدى الأمريكيين وشعوب العالم. وورّط أوكرانيا في حروب شاملة التدمير بلا غاية مع روسيا، وزعزع استقرار أوروبا، وأنهى سلامها وازدهارها، ودفعها نحو العسكرة والإفلاس والدمار، وأيقظ صراعا مع الصين حول تايوان.
استمرار الإبادة
وكانت الجريمة الكبرى رد فعل إدارة بايدن على طوفان الأقصى، فاندفعت نحو تسليح إسرائيل وإمدادها بخدمات لوجيستية واستخبارية، وتبرير جرائمها. ورأى بايدن المقاومة الفلسطينية عدوا وتهديدا لأمريكا، التي شاركت في قيادة الحرب من وزارة الدفاع الإسرائيلية، وأرسلت جنرالات التجسس وحروب المدن، ونشرت “قوة دلتا”. وخلال 13 شهرا، تعهدت إدارة بايدن الإبادة الجماعية بقطاع غزة ثم لبنان، سياسيا وعسكريا وتواطؤا في خطة تغيير خرائط المنطقة.
وقد تلقت حملة بايدن الانتخابية أموالا طائلة من مليارديرات يهود، خاصة حاييم صبّان، مقابل استمرار حرب إبادة قطاع غزة، ورفع عقيرته بوقاحة توبيخا لبايدن على تأخير شحنة أسلحة لإسرائيل.
ورغم أن دونالد ترامب وإدارته القادمة لن تكون بردا وسلاما على عالم بائس يرزح تحت المشروع الاستيطاني الغربي وتنكيله بالبشرية 5 قرون، إمبرياليا ورأسماليا وعنصريا وفاشيا، فإن من المهم فهم الفروق بين معسكرَي الإبادة.
استقطاب أيديولوجي
في أغسطس/آب الماضي، قال دونالد ترامب “إذا لم ننتصر فستبدأ حرب عالمية ثالثة”! عبارة كاشفة عن استقطاب سياسي وأيديولوجي حاد داخل الاجتماع الأمريكي، وسلالتين سياسيتين متدافعتين: عولمة إمبريالية مقابل انعزالية تقليدية!
تُجمِل عبارة ترامب خطوط الصدع والاستقطاب: نخبوية وشعبوية، فدرالية وكونفدرالية، إمبريالية تدخلية وانعزالية، سياسات هجرة وتمركز عرقي أوروبي، ليبرالية اجتماعية وقيم محافظة، حرية تجارية وحمائية. خلاصة العبارة أن سياسات إدارة بايدن والنخبة الديمقراطية العولمية التدخلية: احتواء وتطويقا واستنزافا لروسيا (في أوكرانيا) والصين (في تايوان) ستنتهي إلى حرب عالمية ثالثة!
منذ ولادته، شهد الاجتماع الاستيطاني الأمريكي انقساما وصراعا بين طوائف دينية وأيديولوجيات سياسية، وحربا أهلية بين الشمال والجنوب (1861-1865)، قُتل فيها 750 ألف جندي وضحايا مدنيين أكثر ودمار هائل.
ولم يكن اقتحام أنصار ترامب للكونغرس في 6 من يناير/كانون الثاني 2021 (يوم التصديق على نتائج انتخابات 2020) خارج السياق، بل توّج هجوما ممتدا على الديمقراطية سبق صعود ترامب، واستمر بعد تفريق المقتحمين وتنظيف الكونغرس من قمامتهم. فقد صوَّت 147 عضوا جمهوريا بالكونغرس لإلغاء نتائج الانتخابات.
غلب العنف السياسي على تاريخ الاستيطان الأمريكي، نتيجة طبيعته الصراعية وانقساماته الأيديولوجية وحسابات الدولة العميقة وارتياب المستوطنين البيض. وذكّر إطلاق النار على ترامب في بنسلفانيا قبل أشهر بعنف سياسي، أودى بحياة أربعة رؤساء أمريكيين ومرشح رئاسي.
الحكومة العالمية
لدى مقارنته بين أيديولوجيتَي بايدن وترامب، رأى المفكر الروسي ألكسندر دوغين “بايدن كارثة على العالم وترامب لاعبا عقلانيا”! وأن بايدن مجرد واجهة لنخبة الحزب الديمقراطي الراسخة في السلطة، ويقف وراءه تشكيل متماسك من دعاة العولمة، أو “الحكومة العالمية”، وتتوحد وراءها “الدولة العميقة” ونخب ليبرالية غربية وعالمية.
فالعولمة هي أيديولوجية بايدن والنخبة الديمقراطية بما فيها نائبته كامالا هاريس، وهي مشروع لتوحيد البشرية تحت حكم نخب “تكنوقراط” ليبرالية، يلغي سيادة الدول القومية، ويخلط الشعوب والأديان.
وطبيعي أن يرى البعض هذا مقدمة لـ”مجيء المسيح الدجال”! ويثير هاجس “الحكومة العالمية” ارتيابا بالغا لدى المستوطنين البيض، مما يفسر عداءهم للأمم المتحدة، ويُجيّشهم خلف “بروباغندا” ترامب وأقصى اليمين التخويفية. وأصبح إلغاء نوع الجنس حقيقة واقعة في المجتمعات الغربية. لا شيء إطلاقا يعتمد على بايدن شخصيا في تنفيذ المشروع؛ فهو ليس صانع قرار، بل يؤدي فقط دور معتمد مقر العولمة الدولي.
ويستمر تآكل الديمقراطية “التمثيلية” في الغرب، وسيطرة بيروقراطية متنفذة غير منتخبة، ولا تعبّر عن جسم الأمم السيادي، واختزال الديمقراطية بـ”أوليغاركية ليبرالية”.
وراء بايدن والنخبة المسيطرة أيديولوجية ليبرالية منتشرة عالميا، تضم غالبية نخب السياسة والاقتصاد في العالم، وبايدن نقطة التقاء خيوط الشبكة العالمية. تتجسد الليبرالية في الحزب الديمقراطي، وبينما يقل اهتمام نخبته بالأمريكيين أنفسهم، يتزايد اهتمامها بالحفاظ على الهيمنة العالمية، ولو بحروب عالمية، مما يجعلها خطرة جدا.
المحافظون الجدد
يتبنى المحافظون الجدد الأجندة العالمية لنخبة بايدن، ويصر صقورهم على عالم أحادي القطب، ودعم “إسرائيل” والإبادة الجماعية في غزة. وهناك محافظون جدد ديمقراطيون، لكن أغلبهم جمهوريون يمثلون قطبا مضادا لترامب، وطابورا خامسا لصالح الديمقراطيين ونخبة بايدن.
أيديولوجيا، يعتمد ترامب على المحافظين القدماء، ورثة توجه الجمهوريين الانعزالي التقليدي، ويعبّر عنه شعار “أمريكا أولا”. يدافع المحافظون القدماء عن القيم التقليدية: عائلة طبيعية من رجل وامرأة، وإيمان مسيحي، واحتشام وأعراف ثقافية. وتعزز أيديولوجيتهم للسياسة الخارجية مكانة أمريكا كدولة قومية (إعادة أمريكا عظيمة)، وعدم التدخل في دول لا تهدد أمريكا.
ويبقى المستوطنون البيض متشككين بشأن الحكومة الفدرالية، لأنها تقلص حرياتهم. وأتاح توجه ترامب المباشر نحوهم، مع تجاهل النخب السياسية والمالية والإعلامية لهم، انتخابه رئيسا مرتين.
الدولة العميقة
تضم الدولة العميقة نخبة غير حزبية من كبار المسؤولين وبيروقراطيي الحكومة والجيش والاستخبارات كـ”أوصياء” على الدولة. تتخذ الدولة العميقة نهجين من سياسات الديمقراطيين والجمهوريين. يتبنى الديمقراطيون الهيمنة ونشر الليبرالية عالميا، ويتبنى الجمهوريون تعزيز البلاد كقوة عظمى مهيمنة على السياسة العالمية.
إجمالا، لا تتناقض هذه التوجهات، فالنهجان موجهان نحو الهدف نفسه مع فروق. فالدولة العميقة هي حارسة الاتجاه العام، مما يسمح لتوازن الأطراف كل مرة باختيار أحد النهجين، وكلاهما يلائم الدولة العميقة.
واتضح إجماع الدولة العميقة عندما هيمن المحافظون الجدد على الحزب الجمهوري زمن جورج بوش الابن، واندمجت العولمة بنزعة “أطلسية” وهيمنة يمينية واتفاق على نظام دولي أحادي القطب وعولمة أحادية القطب أيضا. لذلك، لا فارق كبيرا بين سياسات عولمة انتهجها الديمقراطيان بيل كلينتون وباراك أوباما أو سياسات محافظين جدد انتهجها الجمهوري جورج بوش الابن.
ولا خلاف حول نطاق دعم “إسرائيل” بين إدارة ترامب وإدارة بايدن، فلم تتراجع الأخيرة قيد أنملة عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بضم الجولان، وصفقة القرن، ودمج “إسرائيل” إقليميا، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن والقنصلية الأمريكية بالقدس الشرقية، وتوجت ذلك بالمشاركة في إبادة غزة!