المدخلية وأولوية فقه التبول على تحرير فلسطين!!
لم يعد مستغربا ما يثيره دعاة المدخلية في بلداننا العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي تسفك فيه دماء المسلمين في غزة، يتحدثون في قضايا بعيدة كل البعد عن الواقع، بل زاد الطين بلة أنهم يشرعنون ذلك، ويسخفون من قضايا الأمة الكبرى، فتارة يوجهون سهامهم للمقاومة، وتارة لقياداتها، فخرج أحدهم ليقول: يا أبا عبيدة جاهد بالسنن بالإشارة إلى المتحدث باسم كتائب القسام، أبي عبيدة، وكأن السياق الآن هو تعلم السنن، بينما الحال هو حال فرائض، وانتهاك حرمات، تبدأ بالدماء، وتنتهي بالأعراض، والموت بالتجويع، إن أفلتوا من الموت بالقذائف والصواريخ.
وآخر ما صدر من أحد هؤلاء المداخلة، كلام يبدو ظاهره أنه نصوص نبوية، وأنه يمثل الصورة الدينية لقضايا الأمة، والتحرر من المحتل، فقال: إن الله سيحاسب الإنسان على أنه لم يستنزه عن بوله، ولن يحاسبه عن تحرير فلسطين، ثم توجه لشيخ مدخلي آخر بجانبه أكثر منه شهرة، وقال: وليصحح لي الشيخ فلان، وسكت مقرا بما قال.
تقزيم الإسلام وتجريم المقاومة:
هذا التوجه في الخطاب الديني، يتمدد في ظل التضييق على الخط المقاوم، وهو ما يطلق عليه: سياسة تجفيف المنابع، سواء بتجفيفها ماليا أو فكريا، بمحاربة فكرة المقاومة، تارة يخرج شخص فيخبرنا بأن الأقصى ليس في فلسطين، وتارة يخرج أستاذ جامعي أزهري ليقول: إن تحرير القدس ليس واجبا علينا، والآن يصل الخطاب إلى مستوى الحضيض الفكري، بالزعم أن فقه التبول هو أولى من فقه التحرر، وتحديدا تحرير فلسطين!!
اقرأ أيضا
list of 4 itemsثورة سوريا… بين هروب الأسد وظهور الضباع
الثورة السورية من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
المعارضة السورية تسترد الدولة وتقطع الطريق على التقسيم
وأخطر ما في الأمر، هو تصوير الإسلام بهذه الصورة القميئة، التي تجعل من قضايا فرعية أصولا، وتحصر الإسلام فيها، وكأن كل هدف الإسلام كيف يتبول الإنسان؟ لكن ليس من هدفه أن يعيش الإنسان كريما، وفق قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ}، وأخطر ما في الموضوع هو الاجتزاء، سواء اجتزاء القضايا، أو اجتزاء النصوص.
بل إن القرآن الكريم حث المسلمين عن الدفاع عن الدين، وساوى بين الدفاع عن الإسلام والضعفاء، فقال تعالى: {وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} النساء: 75.
كذب على الله ورسوله:
فالشيخ الذي استدل بحديث في السنة النبوية على عذاب القبر، بأنه سيحاسب في القبر على الاستنزاه من البول، ولن يحاسب على تحرير فلسطين، هو كاذب على الله ورسوله، فالسنة نفسها في نصوصها الصحيحة والواضحة، في نص يكذب الرجل بوضوح، يبين أن الإنسان يعذب في قبره لعدم نصرة المظلوم.
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: “أمر بعبد من عباد الله يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه نارا، فلما ارتفع وأفاق قال: علام جلدتموني؟! قال: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره”.
وفي حديث آخر للنبي -صلى الله عليه وسلم- يبين أن العمل العبادي لا ينفصل عن العمل النضالي، فروى البخاري في صحيحه هذا الحديث: “أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، فذكر: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم”.
فهذه النصوص النبوية تجمع بين العبادة الفردية والجماعية، وتجمع بين خلاص الفرد والمجتمع، وهو عكس ما يسعى إليه اتجاهات عدة الآن، بين مدخلية تمجد الاستبداد، وتعمل على تمكين الصهيونية، وضياع المقدسات، وبين توجه يريد جعل التصوف بديلا، وليس التصوف الإيجابي، بل التصوف السلطوي، المنعزل عن قضايا الأمة، وكلا التوجهين، يركز على خلاص الفرد، أن يقوم بالعبادات الشعائرية في إطار الفرد، ولا يهتم بالأمة والمجتمع.
وكي يستمر مثل هذا الخطاب الذي يجزئ الإسلام ويقزمه في آن واحد، فهم يعطون قضايا لم يولها القرآن والسنة اهتماما كبيرا على حساب قضايا هي من الأصول والمفاهيم التأسيسية في الإسلام، كالكرامة والحرية والعدالة، فالقضية التي طرحها هذا الشيخ، وما يطرحه بعضهم، لو وضعنا نصوص القرآن والسنة وحصرنا كم آية وردت في الطهارة؟ سنجدها آيات محدودة وقليلة جدا، ولو قارناها بالآيات المتعقلة بالدفاع عن الإنسان، والوطن، والعرض، وتوفير الكرامة الإنسانية، وبناء مجتمع قوي، وحكم رشيد، لبلغت مئات الآيات، وهو ما يعني أن الخطاب القرآني في اتجاه، وهؤلاء في اتجاه عكسه تماما، إما لجهل بالإسلام، أو لتحريفه عن مساره وسعيه.
شغل الأمة بالتوافه:
وكي يتم ذلك، فلا بد من شغل الناس بقضايا لا تمت للواقع المعيش بصلة، وهو ما كان يحدث في فترات ضعف الأمة، فعند سقوط الأندلس، بينما كانت المعارك الطاحنة تدور، بينما كان بعض الفقهاء والمشايخ يجلس للمدارسة مع طلبة العلم، فيقول: مسألة: ماذا لو نبت للمرأة لحية، هل تقوم بنتفها أم لا؟
والأسلوب نفسه والطريقة تتكرر، بالدخول على العامة من الناس، بقضايا هي من الدين، لكنها في سلم الأولويات هي في موضع معين، لكنها ليست في الصدارة، ولذا كان حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها” معبرا عن ميزان الخطاب الذي يهتم به الداعية، تفكيرا وتحدثا، ورحم الله الشيخ الغزالي حيث جاءته مجموعة من الشباب في المسجد، يسألونه عن هل من السنة أن نمشي حفاة أم مرتدين الأحذية؟ فقال: أنا أجيب عن سؤال يخرج من الرأس لا من القدم، فماذا عنه لو رأى من قدموا فقه التبول على فقه التحرر، وتحرير المقدسات؟!