في ذكرى ميلاد طه حسين: كيف أعاد عميد الأدب العربي تشكيل التراث والثقافة
تولد العبقرية من رحم المعاناة، قد تكون هذه العبارة موجزًا وافيًا لحياة عميد الأدب العربي طه حسين، التي تمر علينا ذكرى ميلاده.
لم يكن طه حسين مجرد أديب، بل كان رمزًا للمقاومة الفكرية والإنسانية، فى زمن كانت تعاني فيه المجتمعات العربية من نقص نوافذ النور.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsإشكالية الملف النووي الإيراني بعد “طوفان الأقصى”
مصر.. من المصالحة إلى “إمام عاشور”
“حلب”.. عندما يوجع “بشار الأسد” إسرائيل!
وُلد طه حسين في 15 نوفمبر 1889، في عزبة “الكيلو” قرب مدينة مغاغة بمحافظة المنيا في صعيد مصر، وفي سن الثالثة، فقد بصره بسبب خطأ علاجي على يد حلاق الصحة في قريته، لكن هذا الحدث لم يكسر عزيمته، بل كان حافزًا له للبحث عن نور البصيرة.
ألحقه والده بكتّاب القرية، حيث تعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم في مدة وجيزة؛ مما أدهش معلميه وأقاربه ووالده، وكان يصطحبه أحيانًا إلى حلقات الذكر، ويروي له قصصًا عن أبطال العرب مثل عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي، وهو ما غذّى خياله وألهب شغفه بالعلم والأدب.
دخل طه حسين الأزهر عام 1902، ثم كان من أوائل المنتسبين إلى الجامعة المصرية عند افتتاحها عام 1908، حيث غمرته روح البحث العلمي والرغبة في المعرفة. درس في الجامعة العلوم العصرية والحضارة الإسلامية، إضافة إلى التاريخ والجغرافيا وعدد من اللغات الشرقية؛ مما أسهم في تشكيل رؤيته الواسعة للعالم، وفي عام 1914، نال شهادة الدكتوراه عن أطروحته التي حملت عنوان “ذكرى أبي العلاء”، التي أثارت جدلًا واسعًا بسبب رؤيته النقدية الجريئة، وفي العام نفسه، أوفدته الجامعة المصرية إلى جامعة مونبلييه في فرنسا ليواصل دراساته العليا، ويغتني بمعرفة العلوم العصرية في أفق أوسع.
رسالة التعليم والتحرر في فكر طه حسين
تناولت كتابات طه حسين مجموعة من القضايا الحيوية التي شكلت نقطه تحول كبيرة في الفكر العربي الحديث، منطلقًا من قضايا الحرية الفردية وحق الإنسان في التعبير بحرية، مؤكدًا ضرورة الفكر النقدي لبناء مجتمع يطمح للتقدم، وكان من أبرز المدافعين عن حق الإنسان في التعليم، مؤمنًا بأنه ليس مجرد ترف، بل حق أصيل يفتح آفاق المعرفة أمام الجميع.
لم تقتصر رؤية طه حسين على القضايا الفكرية فحسب، بل امتدت لتشمل القضايا الاجتماعية، وفي مقدمتها قضية المرأة، فقد رأى أن المرأة شريك فاعل في بناء مجتمع متحضر، وكان يرى أن حقوقها في التعليم والعمل والمشاركة في الحياة العامة هي حقوق مشروعة يجب أن تُمنح لها.
من خلال أعماله الإبداعية مثل “دعاء الكروان” و”شجرة البؤس” و”خطبة الشيخ”، قدّم شخصيات نسائية تتحدى القيود الاجتماعية، وتمتلك حقوقها في التعليم والاختيار، وكأنما أراد طه حسين من خلال هذه الشخصيات أن يرسّخ صورة المرأة القوية، التي تستحق مكانًا متساويًا في المجتمع.
وقدّم طه حسين رؤى نقدية عميقة حول التراث العربي الإسلامي، ساعيًا إلى تجديده بأسلوب علمي يتناسب مع روح العصر، معتمدًا منهجًا علميًّا يستند إلى التحليل الموضوعي والبحث المتعمق، وقد رأى أن التجديد لا يعني القطيعة مع الماضي، بل إعادة إحيائه بما يلبي احتياجات الحاضر.
تأثير الثقافة الغربية في فكر طه حسين
كان طه حسين رائدًا في مزج الفكر العربي بالفلسفة الغربية، حيث صاغ رؤيته الأدبية بأسلوب متفرّد يستند إلى أعمدة فلسفية من الشرق والغرب. تأثر بعدد من الفلاسفة الغربيين، من أبرزهم ديكارت في مفهوم “الشك المنهجي” الذي تبناه كأساس للبحث والنقد، فقد رأى في الشك أداة قوية للتفكير النقدي، تساعد على التخلص من الموروثات التقليدية والسطحية؛ مما يفتح المجال للبحث الجاد والتساؤل المستمر.
كما تأثر أيضًا بفلسفة فولتير في رؤيته النقدية للعقل، حيث تبنى مبادءه في الدعوة إلى استخدام العقل والتفكير النقدي وسيلةً لتحرير الإنسان من قيود التقليد والخرافة. كان فولتير، بنقده للسلطات الدينية والسياسية، مصدر إلهام كبير لطه حسين في سعيه لإصلاح الفكر العربي، كما استلهم من فولتير تأكيده أهمية الحرية الفردية وحقوق الإنسان، مؤمنًا بأن التقدم لا يمكن أن يتحقق إلا في مجتمع يتيح لأفراده ممارسة التفكير الحر والمشاركة الفعالة في الحياة العامة.
أما فيما يخص فلسفة أرسطو، فقد رآه طه حسين كمعلم عظيم وأحد أركان الفكر الفلسفي الخالد الذي يتجاوز الزمن والحدود. حيث كانت رؤيته لأرسطو عميقة، إذ اعتبره مرجعًا أساسيًّا للفلاسفة عبر العصور، يستند إليه حتى من يعارضه.
ولعل ما يميز طه حسين هو قدرته على المزج بين التراث العربي والفكر الغربي، ليصوغ منهما رؤية أدبية فريدة، فهو لم يسعَ إلى تقليد الفلسفات الغربية أو إلى تجاهل إرثه العربي، بل ربط بين الاثنين ليخلق تجربة أدبية فريدة، وأكبر مثال على ذلك كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، الذي يطرح رؤية طموحة لمستقبل مصر الثقافي والتعليمي، مشددًا على أهمية استيعاب الحضارة الغربية، ولكن دون انبهار أعمى، بل من خلال إدراك واعٍ يحفظ للمجتمع المصري هويته الأصيلة ويُضيف إليها من روح العصر.
في ذكرى ميلاد طه حسين، يظل “عميد الأدب العربي” رمزًا للنهضة الفكرية والإبداع الأدبي، تاركًا لنا إرثًا فكريًّا يتجدد مع كل قراءة جديدة. لقد رحل طه حسين عن عالمنا، ولكن أفكاره لا تزال حاضرة بيننا، تذكرنا بأهمية الحفاظ على تراثنا الثقافي، وفي الوقت نفسه، التطلع إلى المستقبل وبناء حضارة عربية مزدهرة، فليكن إرثه حافزًا لنا لنواصل مسيرته في بناء مجتمع معرفي متقدم.