مصر: المنبوذون.. وقانون عمل “ساويرس”

رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس
رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس (غيتي)

كان كاتب هذه السطور، مشاركا عام 2015، في فعاليات عدة لمواجهة أول محاولة لتغيير قانون العمل، كان أشهرها حملة “نحو قانون عادل للعمل”.

الحملة ضمت يومها ستة اتحادات وعشرين نقابة مستقلة وتسعة أحزاب وحركات سياسية وسبعة مراكز حقوقية وشخصيات عامة، وتجاسرت، فوضعت قانونا بديلا، يعالج مشاكل القانون الحالي.

وللأسف، كان مصير مقترح الحملة، هو التجاهل التام، وبعدها بسنوات ألقي القبض على عدد من واضعي القانون البديل.

وبعد تسع سنوات من طرح مشروعها الأول، تقرر الحكومة، بدون حوار مجتمعي شامل، أن تصل بالقانون إلى محطته الأخيرة، لترضي فيما يبدو السادة الممولين، الراغبين في تحرير علاقات العمل لتصبح أكثر “مرونة”، كما حرروا من قبل الأرض من فلاحيها، والمصانع من عمالها.

ومن إشكاليات “مرونة العمل” وفقا لمنظمة العمل الدولية، أن يعتمد العمل أجورا ضعيفة وظروف عمل سيئة؛ مخالفا بذلك المواثيق الدولية، التي تنطلق من أهمية توفير الحماية القانونية للطرف الأضعف بالمجتمع.

المنبوذون

يفقد العامل إنسانيته في النظام الرأسمالي، ويصبح “شيئًا”، فهو مغترب عن إنتاجه، ومغترب في عملية الإنتاج ذاتها.

ولا يتردد نظام كهذا في سلب قطاعات عمالية حقوقها في الانضواء تحت مظلة قانونية، تحميها ولو جزئيا.

وفي هذا السياق، استبعد مشروع قانون العمل، الذي يناقش حاليا بالبرلمان، مليونا ونصف مليون من “عبيد الأجرة”، من مظلته.

وهؤلاء يعملون، منذ سنوات، بلا أدنى حماية، ومن بينهم “مساعدو المنازل”، أو كما يطلق عليهم الأثرياء “الخدم”!

وإذا عرفنا أن غالبية هؤلاء من النساء، فيبدو الأمر، وكأنه دعوة مفتوحة لكي يتحولن إلى “لقمة سائغة” للمستغلين.

والأنكى أن مشروع القانون، تجاهل مواجهة جريمة التحرش الجنسي في مواقع العمل، رغم انتشارها.

ولا يتوقف الأمر عند نبذ فئة “خدم المنازل”، بل يعتبر العاملين في الاقتصاد الرقمي، كيانات فضائية، لا وجود لها في سوق العمل.

وبشكل منفرد، تقرر الشركات، قيمة الأجر أو العمولة التي يتقاضاها العامل، ولا تقدّم أي التزام اتجاهه.

ويقدر الباحث وائل جمال، أعداد العاملين في مشاريع النقل الذكي فقط، مثل “أوبر” و”كريم”، بـ730 ألف عامل.

ويضيف أن “هؤلاء انتزعوا حقوقهم في دول بأمريكا اللاتينية عبر التنظيم النقابي، وهي أدوات ليست متاحة لدينا، في الوقت الراهن”.

رأسمالية تكريس الغبن

وإذا تركنا الفئات، التي تتوق للمساواة القانونية مع بني جلدتها، لنلقي نظرة سريعة على فلسفة القانون، واستجابته لأوجاع 13 مليون عامل؛ فسنجد أن الليبرالية المتوحشة، تعتبر أن العمالة الوفيرة والرخيصة، التي “تكمل عشاءها نوما”، هي ميزتها التنافسية الوحيدة.

وهكذا، لم تجرؤ على الاقتراب من مواد الأجور، فقد كتب عليها “ساويرس ورفاقه” بالبنط العريض “ممنوع الاقتراب”.

وحتى لا نتهم بالمبالغة، نشير إلى أن مشروع القانون يخفض العلاوة الدورية السنوية، من 7 بالمئة من الأجر الأساسي، إلى 3 بالمئة من الأجر التأميني.

وبحسبة بسيطة، سيحصل العامل، على علاوة سنوية هزيلة، لن تزيد على ستين جنيها مصريا (دولار واحد تقريبا)، علمًا بأن ثلث المصريين، يقعون تحت خط الفقر.

وتقترح ورقة أعدتها دار الخدمات النقابية لمواجهة ظاهرة “فوضى الأجور”، أن “يلتزم القانون، وليس المجلس القومي للأجور، بوضع حد أدنى للأجور ملزم لكل العاملين بأجر، على أن يزداد سنويا بمعدل التضخم أو ما يقاربه”.

وليس سرًّا أن المجلس المعني بالأجور، لم يجتمع “بفعل فاعل” على مدار 15 عاما إلا مرات معدودة، وعندما التأم شمله، قرر رفع الحد الأدنى إلى 6000 جنيه.

ولكن قراره “كرس الغبن”، فاستثنى عمال المنشآت الصغيرة جدًّا، التي يعمل بها أقل من عشرة عمال.

وكأن عمال هذه المنشآت، يعيشون بلا أزمات، في دولة شقيقة أخرى، ترفرف عليها رايات العدل والمساواة والحرية.

عاملات أمام النيابة!

أما عمال قطاع الأعمال، الذين يتقاضون، ما بين ثلاثة وأربعة آلاف جنيه شهريا، فقد أضربوا احتجاجا على عدم مساواتهم بالعاملين بالدولة، وعدم شمولهم بقرار رفع المرتبات، وهتفوا “حد أدنى للأجور.. للي عايشين في القبور”.

وإزاء إضرابات العمال، استجابت الدولة لمطالبهم، ولكن الشركات التابعة لها قدمت بلاغات تتهم فيها قيادات العمّال بالتحريض على الإضراب.

وأحيل بالفعل، خلال العام الجاري، 11 عاملا وعاملة للنيابة بتهمة “الإضراب”.

وبالرغم من ذلك، لم يطرأ أي تغيير جوهري على ما يتعلّق بتخفيف القيود على ممارسة الإضراب، بل العكس، إذ تم حظره في المنشآت الخدمية، وهو ما كان مثار تحفظ لمنظمة العمل.

نخبة المقصورة

ورغم كل هذه المثالب، التي يراها بوضوح جمهور الدرجة الثالثة، فإن الجالسين على مقاعد المقصورة والدرجة الأولى، أبدوا قدرا من عدم الارتياح، لبعض بنود القانون.

وكانت الحكومة قد نجحت نجاحا مدويا، نزولا على رغبة المستثمرين، في “تأبيد” العمل المؤقت، واعتبار العقود الدائمة رجسًا من عمل “اشتراكية الفقر”.

ولكن ما أفسد الود هو أن النظام تراجع عما ورد في مسودته الأولى، بإلزام صاحب العمل بتعيين العامل بعد ستة أعوام من العمل “المؤقت” ليجعلها أربعة أعوام فقط.

تخيل يا مؤمن، تعمل أربع سنوات، وقد تجد نفسك في الشارع، ولا يستحي بعض “الكبار” من انتقاد “الحكومة المفترية”.

ومن المنغصات أيضا، أن مسودة القانون، تساوي بين العاملات في القطاع الخاص، والعاملات في الحكومة، في عدد مرات إجازات الوضع.

والمعروف، أن العاملين بالقطاع الخاص عامة، والعاملات خاصة، يصنفون مواطنين من المرتبة الثانية، وهو ما يزعج السادة، الذين يخشون أن تمتد نغمة المساواة، إلى حقوق أخرى.

أما كبيرة الكبائر فهي تشديد مشروع القانون على عدم جواز فصل العامل دون اللجوء إلى المحكمة العمالية، لكن الحكومة لم تستطع تحمل غضب الكبار، فتم التحايل على هذه الضمانة المهمة.

وتبيح المادة 133 من القانون ذاته، لصاحب العمل الحق في إنهاء العقد غير المحدد المدة، دون أسباب، مع إبلاغ العامل قبل ثلاثة أشهر من ذلك!

أوهن من خيوط العنكبوت

يُقال إنه في ظل الاقتصاد الحر، يأتي للسوق دائمًا بائع حر وواعٍ من جهة، ومشترٍ حر وواعٍ من جهة أخرى، ويتبادلان ما بينهما برضى تام، بعقد طوعي متفق عليه من دون إكراه.

يجري تقديم هذه الفكرة الخيالية كانتصار أخلاقي، حيث ينام الرأسمالي والعامل كل يوم هانئين بعلمهما أن كلّ ما حقّقاه في عالم الأعمال قد حدث بالتراضي من دون إجبار، ومن دون تهديد. هذا في المخيّلة، فماذا عن الواقع الحقيقي؟

في عام 2021، كان هناك 27.6 مليون شخص يعملون بشكل جبري في العالم، أي أنه في عصرنا الحالي يوجد 3.5 أشخاص من كل ألف شخص يعملون في ظروف قريبة من العبودية أو السخرة، وفق تقرير لمنظمة العمل.

ومع انطلاق اللبرلة والعولمة في الثمانينيات، بدأت الحماية تتراجع أمام ضرورات المرونة، وهو ما يفسر موجة تغيير قوانين العمل عالميا.

غير أن القيادي العمالي طه سعد عثمان، كان دوما يردد بحق، أن “القانون كخيوط العنكبوت، يعصف به الأقوياء ويقع في حباله الضعفاء”.

والمغزى، أن الكادحين المسلحين بنقابات قوية، بمقدورهم تحدي أي قانون، شريطة وجود مناخ سياسي، يسمح بهامش حركة.

وحتى تأتي هذه اللحظة، ستواصل طبقة “هنجيب منين” نضالها ضد الجوع، والفصل، والاستبداد، متحملة كافة صنوف الاضطهاد، لكن المؤكد أن اللحظة آتية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان