العرب بين ترامب وضعف الصين وروسيا!
اقترب للعرب حسابهم، فكلما مرت عقارب الساعة، وحان وقت تسليم السلطة في البيت الأبيض إلى الرئيس المنتخب دونالد ترامب، في 20 من يناير/كانون الثاني المقبل، يوقنون أنهم مقبلون على نظام دولي جديد شديد القسوة، لا يسمح بأن تظل علاقاتهم مع الولايات المتحدة في نقطة وسطى أو محايدة، تفيد أطرافا أخرى.
فقد أثبتت الفترة الرئاسية الأولى لترامب (2017-2020) أن طبيعته الفوضوية أسست لعلاقة مضطربة مع الشعوب العربية التي ظلت تنظر لعقود إلى الولايات المتحدة بأنها الدولة الراعية للمُثل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، فإذا برئيسها ينجرف إلى صداقة حميمة مع الديكتاتوريين، ويدعم بقوة المشروع الصهيوني، وها قد حظي بفرصة ثانية ليعيد تشكيل العالم وفق جنونه السياسي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsإشكالية الملف النووي الإيراني بعد “طوفان الأقصى”
مصر.. من المصالحة إلى “إمام عاشور”
“حلب”.. عندما يوجع “بشار الأسد” إسرائيل!
فاز ترامب بشعاره “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” بانتخابات استثنائية في كل أمورها، تشمل أول عودة لرئيس سابق إلى الحكم، وحصوله على أغلبية كاسحة بمجلس الشيوخ، والتصويت الشعبي، وهيمنة على مجلس النواب، مع خبرة جعلت أجندته أكثر وضوحا على المستويين المحلي والدولي، عكست رؤيتها باختياره السريع لكبار مساعديه والوزراء المهووسين بجنونه، الذين سيديرون معه الشؤون الداخلية والدولية من مكتبه في البيت الأبيض.
لعبة عالمية جديدة
تبدو رؤية ترامب مرتكزة على جعل الولايات المتحدة “سيد العالم” بلا منازع، تدير منظومة أمنية لصالح حلفائها القادرين على دفع تكاليف الحماية، سواء في الاتحاد الأوروبي واليابان وآسيا وغيرها، بينما سيتطور التعامل مع الصين وروسيا إلى المستوى التالي في لعبة النظام الدولي الجديد، وفقا لتوقعات كثيرين من خبراء “الجيو-بوليتك”.
سينهي ترامب أمل الشعوب العربية والسائرين على الدرب في حياة ديمقراطية، وإعادة حقوقها المسلوبة في فلسطين وسوريا ولبنان، ويحيي أمل الاستبداديين بالبقاء في السلطة إلى الأبد، مقابل صفقات تحقق المصالح الأمريكية، بتبني سياسة خارجية قائمة على واقعية مفرطة وهيمنة تجارية تدعم قوة الدولار، تزيح الصين وتقلص قدرتها على منافسة الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا، مع تحجيم دور روسيا، ومساعدتها بوقف الحرب في أوكرانيا عبر هدنة طويلة الأمد، دون إعلان نصر أو إقرار بهزيمة لأي طرف.
في لقاء مفتوح مع الخبير في علاقات الولايات المتحدة بالدول العربية والشرق الأوسط البروفيسور بول سالم، في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، نهاية الأسبوع الماضي، نبأنا بأن المنطقة ستظل في ذيل اهتمام الإدارة الأمريكية الجديدة، أسوة بسلفه بايدن أو منافسته الخاسرة كامالا هاريس، إلا أن رؤيتنا تقول إن الواقع سيجبر ترامب على الانتقال إلى مستوى آخر.
فعندما أقرت واشنطن النظام العالمي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وضعت قواعد حاكمة ثابتة لعلاقاتها بالدول العربية، قائمة على وضع مصادر النفط والغاز تحت قبضتها، ورعايتها الأنظمة الموالية لها، وربط النفط بالدولار، بما يضمن تدفق أموال البترودولار إلى الأسواق الأمريكية، مع المحافظة على أمن إسرائيل.
أما القواعد المتغيرة التي ستهب مع إعصار “ترامب” فقد أحدثتها نظرة الشباب الأمريكي إلى الصراع العربي الإسرائيلي، التي جعلته يتوقف عند دور العرب واليهود والسود، ممن انتخبوه أملا بقدرته على وقف الحرب، بعد أن ثاروا ضد سلفه والعدوان الوحشي الإسرائيلي على غزة، من منطلق إنساني بحت، بعيدا عن العرق والدين، وأسهموا في تغيير مسار الانتخابات لصالحه.
حارس مشاغب وتنين نائم
اعتادت أمريكا الانحياز الشديد إلى الكيان الصهيوني، الذي يتبناه ترامب من معتقد ديني للمتطرفين المسيحيين البيض، المدعوم بلوبي صهيوني واليمين الغربي المتطرف، ممن يتحكمون في رؤوس الأموال وتوجيه المستثمرين بالعالم، ويمتلكون شبكات هائلة من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
يربط بول سالم، الرئيس السابق لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، رؤية إدارة ترامب للمنطقة باهتمام أمريكا التقليدي بأن تظل قناة السويس ومضايق جبل طارق وباب المندب وهرمز، تحت هيمنة القوة العسكرية الأمريكية، وزيادتها بعد أن بدأت الصين ممارسة دور سياسي بجانب التجاري في المنطقة، وأداء إيران دور الحارس المشاغب في الساحة الخلفية بالخليج والبحر الأحمر، وإدارتها ميلشيات عسكرية تهدد حلفاءها ودولة الاحتلال.
وهناك رؤى بأن المخاوف الأمريكية لم تعد قاصرة على الجماعات التي تصفها بـ”المتطرفة” والتي تهددها والأنظمة الحليفة لها، وإزالة الأخطار التي تهدد إسرائيل، ومصادر النفط الذي تمتلك أكبر حصة في إنتاجه عالميا، وإنما لإزالة التهديدات الأمنية لمصالحها الطويلة الأمد في الشرق الأوسط، يأتي على قمتها إبعاد أي تهديد أمني لإسرائيل، وأي نفوذ صيني عسكري أو تكنولوجي من المنطقة، والمساس بثنائية النفط والدولار مع ضمان تدفق عوائد إلى الأسواق الأمريكية.
يدرك الأمريكيون محدودية التأثير الروسي في المنطقة العربية عند بيع أسلحة غير قادرة على حسم معركة لصالح العرب في مواجهة إسرائيل، ومع ذلك نجد أن المنطقة انتقلت في أجندة ترامب إلى قضية مركزية رغما عنها.
بين الإخوة الأعداء
وضع البيت الأبيض الصين -أكبر شريك تجاري لمعظم الدول العربية- على قمة أولويات سياساته الخارجية، ومن بعدها حليفته أوروبا وعلاقتها المتداخلة بالحرب مع روسيا، فبدأ بمساومة الدول العربية على الابتعاد عن “العدو الروسي”، والصين “العدو المحتمل”، بما وضعها بين شقي رحى، والاختيار بين انفصال مدمر للاقتصاد وخسارة داعمين دوليين.
مع زيادة أمد العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، ودخول إيران على خط المواجهة مع دولة الكيان، أصبحت أزمات المنطقة قضية محلية في الداخل الأمريكي، لم يهدأ عنفوانها رغم انتهاء الانتخابات، فزعزعت قناعة ترامب بدعوته إلى ضم إسرائيل مزيدا من الأراضي التي تحتلها في الضفة الغربية وغزة، وحدَّت من دفاعه عن احتلال أراضي لبنان والجولان، وطرد الفلسطينيين من أراضيهم إلى الأردن ومصر.
يتردد ترامب بعد تشجيعه إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، أو شن هجوم عسكري على منشآتها النفطية، خشية أن تقفز أسعار النفط واندلاع حرب في دول الخليج تجفف منابع الأموال التي يريدها من خزائنها، فترفع معدلات التضخم وتعطل خططه الاقتصادية.
تدفع الإدارة الأمريكية إلى تغيير شكل المنطقة بدون حرب، عبر تمكين إسرائيل من إحراز انتصار عسكري كاسح في غزة ولبنان، وتفوُّق عسكري على إيران والدول العربية مجتمعة، في وقت تحمل مشروعا سياسيا تعطل تنفيذه خلال فترة ترامب الرئاسية الأولى.
يعتمد المشروع على دفع الدول العربية إلى الاعتراف بإسرائيل، وعدم ربط تبادل العلاقات مع الكيان بموافقته على قيام دولة فلسطينية أو حتى إعادة السلطة الفلسطينية لبسط سيادتها على الأراضي الواقعة تحت سيطرتها وفقا لاتفاقات أوسلو.
تدير الأجهزة الأمريكية مفاوضات مع أطراف من تحت الطاولة، تستهدف القضاء على “حماس” وتصفية قواتها في غزة والضفة، وإنهاء الوجود العسكري لحزب الله في لبنان، مع إجبار الطرفين على قبول البقاء داخل عباءة سياسية، وإبعاد إيران، والضغط على دول المنطقة نحو التطبيع السريع، دون تحميل إسرائيل أي التزامات لا ترغب فيها.
هذه الاستراتيجية ستُعلَن بوصول ترامب إلى البيت الأبيض، محصنة بقوة الأساطيل الأمريكية التي تؤمّن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وعروش أصدقائها، وإضعاف إيران، وعدم امتلاك العرب رؤية موحَّدة لمواجهة الاحتلال، وفشل رهانهم على الصين الغارقة في أزمتها الاقتصادية ومشكلاتها في آسيا وخشيتها تحدي واشنطن على إدارة المنطقة.
في ظل خفوت دور روسيا وقبولها التعاون مع إسرائيل ضد حزب الله في سوريا، ومع ترامب في أوكرانيا مقابل التوصل إلى هدنة دائمة مع الغرب، تظل القدرة على تغيير الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة رهينة برغبة الشعوب العربية في مواجهتها وكسرها، ومدى وجود نيات مخلصة بين الزعماء العرب لحسم القضايا الشائكة، دون أن تتعايش على إدارتها.