“الحرب” كما يرويها بوب وودورد
على الجانب الآخر روايات كاشفة.
في أعراف السياسية يبدو ما يدور في الغرف المغلقة، وما تسربه الصحف والكتب من حوارات سرية هو الوجه الآخر للقصة. هذا الوجه الغامض غير المرئي مهم لاكتمال الصورة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
أين الله مما يحدث لسوريا؟ وجاء الجواب!!
سوريا وسقوط الأسد.. ملاحظات أولية
حكى بوب وودورد الصحفي الأمريكي الشهير بعضًا مما يدور في الخفاء منذ بداية العدوان على غزة في كتابه الجديد “الحرب” الذي أثار ضجة واسعة وتصدر أعلى المبيعات في الولايات المتحدة الأمريكية منذ صدوره قبل أسابيع.
أبطال قصص وودورد نتنياهو وبايدن ومسؤولون رسميون عرب وقيادات سياسية غربية.
مسرح هذه القصص هو أوطاننا العربية.
النتيجة المؤكدة: للحرب وجوه عدة!
التهجير لم يكن وهمًا
حصلت على نسخة إلكترونية من كتاب “الحرب” منذ بضعة أيام، أرسلها إلي صديق وزميل صحفي مترجمة إلى اللغة العربية، فعكفت على قراء الكتاب ثلاثة أيام، وانصب تركيزي على الجزء الخاص بالعدوان الإسرائيلي على غزة. لفت نظري في البداية أن الكتاب تبنى الرواية الإسرائيلية للحرب، فوصف ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023 بعيون جيش الاحتلال، وبالغ في وصف ما فعلته حماس بشكل ملفت واعتبره ترويعًا، ونسب ما كتبه إلى أشخاص شاهدوا بعضًا من أحداث ذلك اليوم. روى تفاصيل يوم عملية طوفان الأقصى وما شعر به قيادات دولة الاحتلال، وكشف الاتصالات الأولى بين نتنياهو وبايدن، وذكر الارتباك والذهول اللذين أصابا الكيان المحتل وراعيه الأمريكي من هول الصدمة، وكشف عن تفاصيل أخرى مهمة، فحوّلها من كونها كانت مجرد احتمالات إلى أنها حقيقة راسخة.
في قلب ما أكده الكتاب جاءت قضية تهجير المدنيين الفلسطينيين من غزة إلى سيناء.
منذ اللحظة الأولى للعدوان على أهل غزة راحت اجتهادات السياسيين والكتاب والمثقفين العرب إلى تأكيد أن هناك رغبة إسرائيلية خبيثة في تهجير أهل القطاع عبر جعل الحياة فيه مستحيلة.
كتبنا وحذرنا وقتها، طالبنا بتجميد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وبوقف كل صور التعامل مع دولة الاحتلال.
يروي وودورد في كتابه ما جرى في اللقاء الأول الذي جمع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد السابع من أكتوبر، إذ سأل الأخير بوضوح عن كيفية تعامل إسرائيل مع أهل غزة من المدنيين، فأجاب نتيناهو: “سنجهز لهم ممرات إنسانية، لنأخذهم إلى حدود مصر ونتركهم يذهبون إلى هناك”.
هذه هي المرة الأولى التي تكشف حوارات الغرف المغلقة عن نية رئيس الحكومة الإسرائيلية المتطرف تهجير الفلسطينيين منذ الأيام الأولى للحرب، لكن المذهل كما يروي الكتاب هو عدم رفض الوزير الأمريكي للأمر رغم اعترافه بصعوبته، ووعده بالمحاولة بقوله “قد يكون الأمر صعبًا لكن دعونا نتحدث مع الآخرين”!
هكذا يتعامل الاحتلال المنحط مع دول المنطقة وشعوبها، لا ضابط ولا رابط، كل شيء مباح ومتاح في اقتناع هؤلاء المتطرفين.
في الرفض الرسمي والشعبي والإعلامي الذي حدث في مواجهة سيناريو التهجير الملعون منذ اللحظة الأولى، ما جعله صعبًا.
أعاد الكيان المحتل حساباته من جديد متخليًا -ولو مؤقتًا- عن حلمه بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء.
غيرت الحرب وطبيعتها والرفض الكبير لسيناريو التهجير تكتيكات المواجهة مرحليًّا، لكن يبقى لهذا الكتاب الفضل في تأكيد ما كان بالنسبة لنا مجرد تخمينات وتوقعات.
نيات إسرائيل تنكشف
بعد ساعات قليلة من عملية طوفان الأقصى كان نتنياهو يجهز جيشه للهجوم على لبنان.
جرت تجهيزات الحرب على جبهتين، غزة ولبنان، أو حماس وحزب الله كما يروي الكتاب.
بضغوط شديدة رواها وودورد حاولت الولايات المتحدة إثناء نتنياهو وحكومته عن توجيه ضربة كبيرة للحزب اللبناني.
كانت تقديرات الولايات المتحدة أن المبالغة في الانتقام مما جرى في السابع من أكتوبر ستفجر المنطقة كلها.
بقراءة بسيطة لسطور الكتاب اتضحت نيات إسرائيل منذ الأيام الأولى للحرب.
بكل المعاني السياسية أصبح واضحًا أن الاحتلال لا يحتاج إلى مبررات للغزو أو الاعتداء على دولة عربية.
طبيعته العنصرية والعدوانية والتوسعية تظهر في اللحظة نفسها التي لا يمكن لأحد أن يتوقعها.
المكالمة الهاتفية التي حاول فيها الرئيس الأمريكي إقناع نتنياهو بالتراجع عن توجيه ضربة قوية لحزب الله انتهت إلى لا شيء، أصر رئيس الحكومة الإسرائيلية على موقفه، ولم يخضع لضغوط بايدن الذي حذره من جر الشرق الأوسط إلى حرب إقليمية كبرى لا يمكن توقع نتائجها.
بعد إبلاغ الولايات المتحدة أن العملية العسكرية في جنوب لبنان ستبدأ خلال 30 دقيقة، انتهى اجتماع الحكومة الإسرائيلية بعد ساعات إلى عدم الموافقة على توجيه ضربة لحزب الله.
في التفاصيل المكتوبة ما يكشف نيات العدوان منذ البداية، قررت حكومة دولة الاحتلال المتطرفة أن تنفذ مخططاتها ضد الجميع باستغلال أحداث طوفان الأقصى، تهجر الفلسطينيين إلى سيناء وتقضي على قوة الحزب اللبناني رغم أنه لم يشترك في الطوفان بأي شكل.
صدمة الطوفان المرعب
رغم تأكيد الكتاب على أن مسؤولين عرب أفصحوا لوزير الخارجية الأمريكي عن كرههم الشديد لحركة حماس، وأملهم أن تنجح إسرائيل في القضاء عليها، كانت التفاصيل البسيطة الواردة فيه مثيرة، وكاشفة لأن الكيان المحتل هشّ وضعيف ولا يمكن أن يعيش أو يستمر بلا حماية أمريكية.
يروي وودورد الصدمة المرعبة التي أحدثها الطوفان، والارتباك الكبير في صفوف الجيش المحتل والقيادات السياسية، ودخول نتنياهو إلى مخبأ حصين، والبدء الفوري في الاتصالات مع الإدارة الأمريكية لتنقذه من الهجوم الصادم، وأسئلته لقيادات جيشه عما إذا كانت العملية قد انتهت أم لا تزال مستمرة، واستفساره عن عدد الفلسطينيين الذين تسللوا إلى الداخل الإسرائيلي، ثم وصفه الأول للضربة الشجاعة بأنها “حرب” كاملة.
قبل الطوفان -وحسب الكتاب- كانت التقديرات الأمنية لدولة الاحتلال تؤكد أن حركة حماس قد انتهت، وعددت الأمثلة على سكونها الكبير منذ بضعة أعوام، وعدم اشتراكها في الحرب الإسرائيلية ضد حركة الجهاد الإسلامي في شهر مايو/أيار من عام 2021، وقتها ابتعدت حماس عن المواجهة لتتفرغ للإعداد ليوم الطوفان.
لاحق الفشل قيادات إسرائيل أمنيًّا وسياسيًّا وأضحت تقديراتهم لقوة حماس مثار تندر من الذين باغتتهم صدمة يوم السابع من أكتوبر وقوته ونتائجه التي لم تحدث من قبل.
اكتشف الاحتلال بعد السابع من أكتوبر قدرة الحركة التي ظن أنها انتهت على تنظيم ضربة كبيرة دون أن تكتشف أجهزتهم الأمنية معلومة واحدة طوال فترة التخطيط وحتى تنفيذ الهجوم ببراعة.
كشف كتاب “الحرب” عن وجوه أخرى لقصة السابع من أكتوبر، وحكى كواليس ومعلومات كان من الصعب أن تصل إلينا في أوطاننا التي تحاصر الكلمة وتضع القيود على النشر والتفكير.
من هنا تأتي قيمته حتى وإن كان كاتبه يتبنى الرواية الإسرائيلية للعدوان.
فما بدأ في عام 2023 يستحق أن نعرف تفاصيله خاصة تلك التي جرت في غرف السياسة المغلقة، لنفهم ماذا جرى وكيف يتعامل العدو مع الأحداث الكبرى.
تلك معرفة مهمة ومطلوبة لمستقبل مقبل وصراع سيستمر حتى تحرير فلسطين.