القيادة وقوة اللغة.. كيف يكسب القائد القلوب بالكلمات؟!

بدأت قبل العدوان الإسرائيلي على غزة مشروعا علميا لتطوير نظريات القيادة من منظور الحضارة الإسلامية، لكن مشهد دماء الشهداء في غزة شكل صدمة لكل ضمير يرفض الظلم والقهر والطغيان واستخدام القوة الغاشمة.

ثم قررت اليوم أن أكمل مشروعي، فعلى ضوء دماء الشهداء يمكن أن نستشرف المستقبل؛ فالشعوب سوف تثور لتنتزع حريتها، وتصر على إسقاط كل أشكال الاستعمار والاستبداد، وسوف تختار قياداتها التي تعبر عن أشواقها إلى العدل والحرية.

قوة اللغة.. لماذا؟!

وعندما تشتد المحن يظهر القادة الحقيقيون، الذين يمكن أن يستخدموا الكلمات لتحفيز الناس على الابتكار والإبداع، وإنتاج المعرفة التي تشكل أساسا لتحقيق التقدم، فالدولة التي تبني مجتمع المعرفة هي التي يمكن أن تحقق القوة في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية.

وتجارب الشعوب في كفاح الاستعمار والاستبداد تسهم في تطوير المجتمعات المعرفية، فهذه التجارب تلهم الأحرار، وتزيد قدرتهم على حل المشكلات. لكن تلك التجارب تحتاج إلى قادة يشرحونها بلغة قوية تحفز الناس على الصمود والمقاومة والإصرار، وتطلق ثورة عقول تبحث وتخطط وتبتكر.. لذلك يفتح مفهوم قوة اللغة آفاقا جديدة لقيادة المجتمعات المعرفية.

لذلك يمكن أن تختار الشعوب قياداتها التي تعبر عن هويتها وتروي قصة كفاحها، وتستخدم الكلمات القوية في تحفيز الناس على الصمود، والاعتزاز بالذات، والثقة في القدرة على تغيير الواقع وتحقيق الأهداف.

اللغة العربية قوية.. ولكن!

ولكي نطور خطاب قادة المستقبل يجب أن نكتشف قوة اللغة العربية، فهي تشكل أساسا للحضارة الإسلامية التي تشتد حاجة الإنسانية إليها؛ لتخلصها من الظلم الذي سيكون سببا في انهيار هذا العالم، وتدمير العمران، وسفك دماء الملايين. ويمكن أن نشاهد الآن الكثير من المؤشرات على بداية السقوط.

واللغة العربية لها منطقها الذي يجعلك تفكر في أن تصبح قائدا، وأن تكافح لتحقيق أهداف عظيمة، ولكي نطور علم القيادة يجب أن نكتشف هذا المنطق الذي يشكل القوة التي ترتبط بالأصالة.

والوعي بمنطق اللغة العربية، من أهم الأدلة على الأصالة، فاللغة ليست مجرد كلمات يستخدمها الإنسان في الاتصال وصياغة الرسائل، ولكنها تشكل الفكر والثقافة وعملية صنع القرار وصياغة الرؤية والأهداف والرسالة، واختيار الكلمات يكشف مقومات الشخصية، وقدرتها على التأثير والقيادة.

إعداد القيادات في البادية!

في ضوء ذلك يمكن أن نفهم منطق العرب في تربية أبنائهم في البادية، فلم يكن الهدف إجادة اللغة العربية فقط، فهم كانوا يجيدون هذه اللغة في المدن العربية، ويمكن أن يعلموها لأبنائهم، وكانت قريش في مكة هي أكثر قبائل العرب قدرة على التعبير بها شعرا ونثرا، وكان الشعراء يحصلون على الشهرة عندما تعترف مكة بهم.

هذا يعني أن التربية في البادية كان من أهم أهدافها إعداد القيادات، وأن إجادة اللغة العربية ترتبط بإطلاق الخيال السياسي والجغرافي والاجتماعي، وفهم منطق القوة في هذه اللغة، وأن العرب ربطوا لغتهم بالفروسية وإطلاق الخيال والتفكير والسيادة والعزة والإصرار، فارتبطت قوة اللغة بقوة الشخصية.

رسالة القيادة في المحنة

يمكن أن أقدم لك الكثير من الأدلة على أن هناك علاقة بين قوة القلب واستخدام الكلمات في موقف يحتاج فيه القائد إلى تقديم رسالة واضحة ومختصرة تؤثر بشكل مباشر في الجماهير، لكنني سأكتفي هنا بتقديم مثال يوضح الفكرة، حيث خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه من حجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليواجه الصحابة الذين أصابتهم الصدمة قائلا: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

إنها رسالة واضحة ومختصرة أعادت الأمة كلها إلى حقيقة الرسالة، فالأمة تعبد الله وحده الحي القيوم الذي لا يموت، أما البشر جميعا فإنهم يموتون، والصحابة جميعا يؤمنون بذلك، لكنهم كانوا يحتاجون إلى العبارة التي صاغها أبو بكر لتواجه الأمة الحقيقة، وتنطلق في مرحلة جديدة من حياتها تتحمل فيها المسؤولية عن توفير المعرفة عن الإسلام لكل الإنسانية.

لغة الضمير والإيمان!

هل هناك لغة في العالم يمكن أن تعطي للقائد القوة؛ لصياغة هذه العبارة في وقت تكون الأمة في أشد الحاجة إليها سوى اللغة العربية؟!

وصياغة هذه العبارة وإعلانها يؤكدان أهليته لقيادة الأمة، كما يؤكدان العلاقة بين شجاعة القلب والضمير، وقدرة القائد على اختيار الكلمات. ولقد أثبت أبو بكر رضي الله عنه قدرته على مواجهة كل التحديات، والمحافظة على مبادئ الإسلام، وتوحيد الأمة.

ولكي نتمكن من إعداد قيادات المستقبل يجب أن نتأمل هذه العبارة، ونكتشف في ضوئها قوة اللغة، وكيف يمكن أن توفر الفرص للقائد؛ للتعبير عن الحقيقة بقوة في اللحظة التي تحتاج فيها الأمة إلى أن تبدأ مرحلة جديدة في كفاحها.

وعندما يقول القائد كلمته التي تطلق طاقات الأمة، وتدفعها إلى بناء الحضارة تتجلى أصالة القيادة المرتبطة بقوة اللغة، كما يمكن أن تكتشف الأمة قدراته عندما يتكلم ويختار الكلمات التي تعبر عن قلب قوي يمكن أن يواجه التحديات، ويلهم الأحرار، ويفتح لهم آفاقا جديدة للكفاح، ويحفزهم لتقديم التضحيات.

وقوة اللغة العربية تفتح أمام قيادات المستقبل آفاقا جديدة وتسهم في بناء شخصيتهم، وإطلاق خيالهم لصياغة رؤية جديدة تحقق للشعوب العدل والحرية.

لكن هل يمكن أن يكون هذا الوقت مناسبا لتطوير ذلك العلم؟ أعتقد أننا على أبواب مرحلة جديدة في تاريخ أمتنا، وأنها تحتاج إلى قيادات أصيلة تقدم رؤية جديدة لبناء المستقبل.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان