عبد الوهاب مطاوع.. في ذكرى مولده!

عبد الوهاب مطاوع (منصات التواصل)

بينما كنت أقبض على جنيه ونصف وأنا أتفحص الكتب عند “سيد” بائع الصحف في مدينة منيا القمح (64 كيلومترًا شرق القاهرة) لأشتري كتابًا من سلسلة “عالم المعرفة” التي تصدر في الكويت وتباع بثمن زهيد في مصر والدول العربية، وكذلك لأحصل على مجلة “روزا اليوسف” وجريدة “المسلمون”، سمعت حوارًا بين شاب جامعي والبائع ملخصه أنه لكي تحصل على “مجلة الشباب” لا بد أن تدفع ثمنها وتحجزها قبل اليوم الأول من الشهر وإلا فلن تجدها.

بعد انصراف الشاب سألت البائع، فأخبرني أنها مجلة “ماسكها عبد الوهاب مطاوع بتاع بريد الأهرام”، واستطرد واصفًا المجلة “بياعة وبتتخطف” و”إحنا بنسترزق منها”.

 البريد هو الحل

رن في أذني اسم “بريد الأهرام” الذي كان بابًا يوميًّا مملًّا يعتمد على رسائل القراء الجافة وطلباتهم من المسؤولين، إلى أن تولاه عبد الوهاب مطاوع عام 1982 فجعله ساحة رأي ينفّس القراء فيها عن غضبهم وانتقاداتهم ويشاركون مصاعب الحياة، وكان أن تسابق القراء لإرسال خطابات إلى الجريدة للشكوى وطلب الحلول.

بحرفية التقط “مطاوع” من بين آلاف الرسائل مشكلات خاصة يطلب أصحابها الرأي والمشورة، وخصَّص لهم يوم الجمعة لينشر ردًّا مطولًا برأيه، مدعومًا برأي الدين وعلماء النفس وفلاسفة الشرق والغرب وشرّاح المنطق.

كانت ردود “مطاوع” تتدثر بالحكمة وتتشح بالرصانة، لكنها أيضًا كانت تلتحف بالرحمة، حين يقع صاحب الرسالة في خطأ أو خطيئة ليقوم قلمه بالمساعدة وليس المحاسبة، فاختار أن يكون دوره هو الانحياز إلى رمي “طوق النجاة” وليس للإمساك بـ”كرباج” لجَلد من كابد مشكلة شلت دوامتها تفكيره وعطلت منطقه.

كانت الثقافة العريضة التي تمتع بها “مطاوع” سببًا في جذب شرائح متعددة لكتاباته التي كانت تبحث عن المشترك الإنساني العام وتمسك بتلابيبه، فتطوف ردوده بين الحلّاج وابن عربي والسهروردي والجيلاني من رواد التصوف الإسلامي، لكنها قد تعرج على تعاليم حكيم الصين “كونفشيوس” ونظريات “سيغموند فرويد” في علم النفس، وتتوغل نحو ابن رشد وأرسطو، وتمر بأدب نجيب محفوظ ومصطفى لطفي المنفلوطي والجاحظ، لكنها تبحر نحو “شكسبير” و”ماركيز” و”كافكا” و”فولتير”.

مؤسسة “بريد الأهرام”

زحف “بريد الأهرام” شيئًا فشيئًا نحو القارئ، واقتحم عليه خلوته وشاركه مشكلاته وساعده في حلها، وقد ساعد في اطمئنان القراء وثقتهم أن كاتب البريد لم يكن يذكر اسم صاحب الرسالة التي يختارها للنشر يوم الجمعة بل كان يحذف منها ما يشير إلى صاحبها ولو من بعيد حفظًا للخصوصية، فكان يذكر أن صاحب الرسالة من مدينة ساحلية أو من إحدى مدن الصعيد أو من قرية صغيرة في دلتا النيل، وهي أوصاف تنطبق على كثيرين.

كان التطور الثاني في قصة “بريد الأهرام” أن ثقة القراء في عبد الوهاب مطاوع بوصفه كاتبًا يبحث عن تخفيف معاناة الناس، دفعتهم إلى التبرع المالي والعيني لأصحاب المشكلات التي كانت تحتاج إلى علاج أو شراء ملابس أو كتب للدراسة أو أجهزة تعويضية، وكان أن نشأت مؤسسة خيرية صغيرة هي “البريد” في أحضان مؤسسة كبيرة هي “الأهرام”.

لم يكن “البريد” يوزع التبرعات -التي أصبحت بالملايين- لمن يطلب بل شكَّل فريقًا من الصحفيين والاختصاصيين الاجتماعيين، مهمتهم زيارة طالب المساعدة واتخاذ إجراءات للتأكد من احتياجه واستحقاقه قبل الصرف، وأوجد هذا جسرًا قويًّا بين القراء والجريدة التي كانت تستقبل في مقرها بوسط القاهرة عشرات المحتاجين كل أسبوع ممن يصرفون إعانات مقرَّرة وفقًا لحالة البحث التي جرت سابقًا.

احتشد القراء حول “بريد الأهرام” وكاتبه، فأصبح له مريدون يتحلقون حوله تمامًا كما يلتف المريدون حول الشيخ في “الحضرة” أو حلقات الذكر، فأصبح لهم لقاء واحتفال سنوي يقوم فيه أحد قراء البريد بدور المؤرخ، وعُرف بـ”جبرتي البريد” الذي يقوم بالإحصاء لما نُشر والموضوعات التي تناولها والحلول التي أمكن المساعدة في إيجادها.

البحث عن “الشباب”

انتبهت من استدعاء قصة “بريد الأهرام”، وسألت “سيد” بائع الصحف إن كان عليَّ الانتظار إلى الشهر القادم لأقرأ “مجلة الشباب” التي يرأسها عبد الوهاب مطاوع “بتاع بريد الأهرام”، فأرشدني إلى بائعة بجوار محطة القطار لا تحجزها لمن يدفع سابقًا لكنها تبيعها بأكثر من ثمنها.

توجهت إليها مسرعًا، فقالت “الشباب خلصت”، فقلت لها “أنا من طرف سيد اللي جنب البوستة”، فسألتني عن اسمي وعائلتي، واطمأنت لمّا ذكرت لها اسم خالي التاجر المعروف، ومثل باعة الممنوعات تلفتت يمينًا ويسارًا، وأخرجت نسخة مخبأة تحت الصحف المعروضة في “الكُشك” الضيق وطلبت “75 قرشًا” قبل أن ألمس المجلة، فمنحتها جنيهًا كاملًا، ولمّا حاولت المجادلة بأن السعر المكتوب “40 قرشًا” فقط، كادت تسترد المجلة بحدة ملمحة أنها لا تبيعها إلا لمن تعرفهم فقط “عشان فيه ناس ولاد حرام بيشتكوني لبتوع التوزيع”.

أنا وأبي

الانبهار كان ملازمًا لشاب مثلي في مقتبل العمر والتجربة، وهو يتصفح كنزًا من المعرفة بين ضفتَي المجلة التي تحوي تحقيقات ونماذج ناجحة وحوارات، ومقالات لأنيس منصور ومصطفى محمود وأحمد بهجت وفرج فودة وصلاح منتصر وعبد الله أحمد عبد الله (ميكي ماوس) ونبيل فاروق والساخر الكبير محمود السعدني، وتحوي الصفحة الأخيرة من المجلة مقالًا لعبد الوهاب مطاوع بعنوان “نهر الحياة”. وقد كان هذا المزيج اللافت دافعًا لأبي خريج الأزهر -الذي كان أزهرًا- أن يتصفح المجلة ثم يُصر على تناوبها معي فور صدورها، فقد كانت تضم كتّابه المفضلين أو من يجب عليه الاطلاع على آرائهم حتى لو اختلف معهم.

في السوق السوداء

اتفقت مع بائع الصحف على حجز نسخة لي من مجلة الشباب بشرطين؛ الأول أن أذهب إليه بعد الفجر مباشرة للحصول على نسختي، لأنه لا يحب الكذب على الزبائن بادعاءات نفادها، لكنه يقول “اللي عاوز ييجي بدري”، والثاني أن أحصل على نسختي بسعرها بشرط شراء كتب ومجلات بما لا يقل عن جنيهين (5 دولارات بسعر الصرف عام 1987).

كانت المجلة مطلوبة ومرغوبة إلى درجة أنها تباع في “السوق السوداء”، فقد ارتفع توزيعها من 2000 نسخة عندما كانت مخصَّصة للعلوم فقط إلى أكثر من 160 ألفًا بعد تولّي عبد الوهاب مطاوع رئاسة تحريرها عام 1987، بعد أن جعلها مجلة متنوعة تخاطب “الشباب من كل الأعمار” وهو الشعار الذي رفعته على صدر غلافها، واستمرت على القمة في التوزيع حتى رحيل مطاوع في السادس من أغسطس/آب 2004.

إسقاط الجدار

استفاد عبد الوهاب مطاوع من تجربته في “بريد الأهرام”، ونقل تجربته الناجحة في التواصل المباشر مع القارئ إلى “الشباب”، فأسقط الجدار الفاصل بين الصحفي والقارئ عبر مسابقات جائزتها أن تلتقي نجمك المفضل أو تقوم برحلة مع أحد المشاهير، أو تحدّثه مباشرة عبر الهاتف الأرضي عندما تستضيفه المجلة كل شهر، وكان هذا كله بترتيب صحفيي المجلة الذين أصبحت أسماؤهم معروفة بين القراء، كما كان هناك قراء معروفون من كثرة ترددهم على مقر المجلة بمؤسسة الأهرام.

وسط أنشطة الترفيه مع النجوم لم ينس مطاوع حظ الثقافة، فكانت هناك مسابقات جوائزها الحصول على مجموعة كتب أو اشتراك مجاني للمجلة نفسها أو زيارات للمعارض وللمتاحف ودار الكتب أو دعوات مجانية لمعرض الكتاب، وقد كانت كلها أفكار سابقة للعصر، وخارجة عن حدود المألوف والتقليدي، وهو ما جعل من الطبيعي أن يتخاطف القراء “مجلة الشباب” وأن يَعُدها الباعة سلعة مميزة تستحق سوقًا موازية.

سر “الشباب”

أدرك مطاوع أن مجلة الشباب لا بد أن يحررها الشباب بأنفسهم، ففتح الباب لتدريب عشرات من طلبة الجامعات، وفتح المجال لنشر إنتاجهم بأسمائهم منفردة وليس تحت وصاية صحفي قديم، وكنت في الموجة الثانية ممن سُمح لهم بدخول المؤسسة الكبيرة من باب “تدريب الطلبة”، حيث استفادت المجلة من التنافس بين شباب الصحفيين خاصة مع تنوع الأبواب التي أطلقها مطاوع لتكون وعاء للأشكال التحريرية المختلفة.

كان باب “محكمة الشباب” نموذجًا للتحايل على سقف السياسة التي اختار “مطاوع” ألا يوغل فيها، حيث يستضاف مسؤول سابق في حوار أشبه بالمحاكمة، يرد فيه على اتهامات وجدل أثير حوله أو حول مواقفه، أو يقدّم شهادة على حدث ما مثل نكسة 1967 أو انتصار 1973 أو معاهدة “كامب ديفيد”.

كما كان باب “أحفاد التاريخ” مفتاحًا للتعرف على امتداد شخصيات عاشت في العصر الملكي أو ما قبله أو ما بعد ثورة يوليو/تموز 1952، أو حتى أحفاد شخصيات تاريخية أقدم من كل هؤلاء.

كانت مجلة الشباب كذلك مكانًا مألوفًا ومحبَّبًا لنجوم الفن والرياضة والثقافة للالتقاء بالقراء، ومحاورتهم والتقاط الصور معهم، كما تنوعت أبواب المجلة من الكاراتيه وألعاب الدفاع عن النفس والمصارعة وهواة السيارات والأغاني الغربية، وكذلك الراغبون في معرفة فتاوى الدين في موضوعات مختلفة، فضلًا عن هواة “بوسترات المشاهير” التي كانت تُنشر في الصفحة المزدوجة بالمجلة شهريًّا، ولذلك اتسعت مساحة القراء الذين اجتذبتهم المجلة.

القِبلة هي القارئ

يرد ذكر عبد الوهاب مطاوع كثيرًا هذه الأيام عندما نتحدث عن أزمة الصحافة، وكيف كانت أرقام التوزيع تتربع على عرش المليون وأكثر، وكيف كان المحتوى هو السبيل الوحيد لزيادة الانتشار، وكيف كان باب “بريد الأهرام” الذي ظل مطاوع يحرره لنحو 22 عامًا، وكيف كانت مجلة الشباب التي رأس تحريرها 17 عامًا نموذجًا يُدرَّس في كيفية جذب القارئ ليس فقط للشراء ولكن للمداومة على استمرار الشراء، والارتباط بالصحيفة أو المجلة.

كان صحفيو الأهرام يتوجهون في ما يكتبونه إلى المسؤولين وإلى رؤسائهم في الجريدة، وكان القارئ في المرتبة الثالثة من أولويات اهتمامهم، وذلك وفق دراسة علمية أجراها أستاذ نظريات الإعلام بكلية الآداب بجامعة الزقازيق الدكتور عبد الفتاح عبد النبي.

كانت الدراسة تشمل القائم بالاتصال في صحف الأهرام والأخبار والجمهورية، وهي الصحف الثلاث الكبرى في مصر نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وقد أثبتت أن الأهرام تحتل المرتبة الأولى في التوجه نحو المسؤولين تليها الأخبار ثم الجمهورية.

كان الكاتب الصحفي عبد الوهاب مطاوع، الذي التحق بالأهرام قبيل تخرّجه بأشهر عام 1961 واستمر فيها حتى نهاية حياته عام 2004، استثناءً من هذه الدراسة في مؤسسة نشأت عام 1875 ولديها تراث ممتد لعقود في الاقتراب من السلطة، لكنه كان حريصًا على أن تكون وجهته نحو القارئ فقط، وأن يكون تكريمه رصيدًا من الثقة انعكس في أرقام توزيع خرجت به عن سياق المنافسة.

لماذا نتذكره؟

في مثل هذا الشهر قبل 84 عامًا، وفي بيت تاجر معروف بمدينة دسوق غربي محافظة كفر الشيخ، وعلى بُعد خطوات من مسجد القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي، وعلى بُعد أمتار من ضفاف النيل الخالد، وُلد محمد عبد الوهاب مطاوع الشهير بـ”عبد الوهاب مطاوع” الذي انعكس حسه الصوفي ورقّة نفسه ليس فقط في زهده وابتعاده عن السعي نحو المناصب إلا ما كُلف به، ولكن أيضًا لردوده على رسائل قرائه التي شكلت مادة خصبة لأكثر من 50 كتابًا ومجموعة قصصية.

في مبنى الأهرام الذي استنزف طاقته، لا توجد قاعة باسمه أو صورة أو ما يشير إلى دوره، لكن قد يكون من المناسب أن نعيد التذكير به احتفاءً برجل كان يتسم بالاستقامة الأخلاقية والنزاهة التي نفتقدها الآن، وصحفي حشد كل طاقته وأحبار أقلامه في النزوح إلى شطآن القارئ وليس في التزلف على أعتاب المسؤولين.

وُلد عبد الوهاب مطاوع في 11 من نوفمبر/تشرين الثاني 1940، وتوفي في 6 من أغسطس/آب 2004، رحمه الله تعالى.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان