هل تتنازل شعوبنا عن حريتها واستقلالها ثمنا لراحة البال؟
تحررت كل الدول التي كانت قابعة تحت الاستعمار باستثناء فلسطين، وتحررت شعوب أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية والعديد من الدول الإفريقية من الاستبداد والحكم الشمولي، لكن شعوبنا العربية لم تتحرر بعد، ولا تزال ترزح تحت نير الاستبداد.
حين وقعت موجات الثورات في العديد من مناطق العالم، كان السؤال: متى تصل تلك الموجات إلى منطقتنا العربية؟ وقد جاءت الفرصة مع انطلاق الموجة الأولى للربيع العربي مطلع عام 2011، ثم كانت الموجة الثانية في لبنان والعراق، وتلتها الموجة الثالثة في الجزائر والسودان، لكن الثورات المضادة نجحت للأسف في حصار الحلم، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلماذا كان السقوط سريعا؟
دون حكم ديمقراطي رشيد.. أوطاننا في خطر
الاقتصاد السوري.. عجز تجاري سلعي وخدمي مزمن
على مستوى التحرر من الاستعمار، تحررت الدول العربية مثل غيرها من الدول التي كانت قابعة تحت الاستعمار، وإن ظل تحررها شكليا في الغالب، إذ ظلت غالبية الأنظمة التي حكمت بعد التحرير مرتبطة بالاستعمار بطريقة أو بأخرى، وظلت الدول الاستعمارية حريصة على إبقاء نفوذها بطريقة أو بأخرى رغم أنها سحبت جيوش الاحتلال. وحدها فلسطين التي بقت تحت استعمار استيطاني استئصالي أكثر من 76 عاما. منذ أعلنت العصابات الصهيونية سيطرتها على أجزاء واسعة من أرض فلسطين، وإعلان كيانهم الغاصب، لم يتوقف النضال الفلسطيني ضد هذا الاستعمار يوما، يرتفع حينا ويتراجع حينا، لكنه لم يرفع الراية البيضاء كما يريد الصهاينة ومن يقف خلفهم.
عودة إلى الخلف
في موجات الربيع العربي الثلاث دفعت الشعوب أثمانا من أجل نيل حريتها وكرامتها، وتحسين معيشتها، نجح بعضها جزئيا ولبعض الوقت، بينما تعثر آخرون بسبب قوة الاستبداد، دفعت الأوطان أيضا الكثير، حيث كانت تلك الثورات بمثابة حرث للأرض، وإعادة تشكيل المجتمعات، وخروجا من الأنماط التي فرضتها أنظمة الاستبداد لعقود طويلة، التي أعلت من خلالها بعض الفئات على حساب المستحقين من المجتمع، والتي فرضت فيها تقسيما ظالما للنفوذ والثروات، فأرادت الثورات إعادة الحقوق إلى أصحابها، وعدالة التوزيع في المجتمعات العربية. مع هذه التغيرات الكبرى التي بدأتها الثورات، شهدت المجتمعات بعض التوترات، إذ لم يقبل من اغتصبوا السلطة والثروة أن تُنتزع منهم تحت شعار عدالة التوزيع، فكانوا عونا للثورات المضادة، وأسهموا بدورهم في الانقسام المجتمعي، وهرب بعضهم بأمواله إلى ملاذات آمنة مما تسبب في زيادة الأزمات الاقتصادية في دولهم.
نجحت الثورات المضادة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في العديد من الدول مثل مصر وتونس واليمن، ولا تزال في معركة لم تنته في دول أخرى مثل ليبيا، بينما انقلبت الثورات إلى حروب أهلية كما هو الوضع في سوريا والسودان. في كل الحالات ارتفعت أصوات تهاجم الثورات، وتتهمها بتدمير المجتمعات والأوطان، وزعزعة الأمن والاستقرار الذي نعمت به تلك الأقطار، وكالت اللعنات لقادة التغيير رغم أنهم دفعوا بدورهم أثمانا باهظة ولا يزالون، ونجحت الثورات المضادة من خلال امتلاكها أذرعا إعلامية قوية في تضليل الرأي العام مجددا، وتخويفه من مغبة أي دعوة إلى التغيير.
الطوفان والدماء والدمار
في فلسطين، كان طوفان الأقصى هو أكبر وأطول معركة فلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيس الكيان، ورغم ما حققه الطوفان من ضربة كبرى لنظرية الأمن الإسرائيلي، وإعادة الخوف إلى المجتمع الإسرائيلي، وكسر حالة العجز والهزيمة عند الفلسطينيين، والتأكيد أنهم قادرون على الفعل تحت أقسى الظروف، وتحت الحصار الممتد، إلا أن الأعداد الكبيرة للشهداء والجرحى والمهجَّرين، والدمار الواسع الذي تعرَّض له قطاع غزة فاق كل توقع، وهو ما استثمرته القوى المضادة للمقاومة في الداخل والخارج لتشويه طوفان الأقصى، وتحميل المقاومة المسؤولية عما حدث من إبادة وتدمير بدلا من تحميلها لجيش الاحتلال، وتسويق روايات أن خسائر الطوفان تفوق كثيرا مكاسبه، وبالمحصلة فإن هذه الدعاية السوداء ضد الطوفان تقول إنه كان واجبا على الفلسطينيين قبول الأمر الواقع، وعدم استفزاز العدو حتى يستطيعوا العيش في كنفه بأمان!
قبول الأمر الواقع هو الرسالة الرئيسية لقوى الاستبداد المتحالفة مع قوى الاستعمار والهيمنة الدولية، فهل ينبغي للشعوب العربية التجاوب مع هذه الرسالة طلبا للأمان والاستقرار؟ وهل تقبل هذه الشعوب التضحية بحرياتها واستقلالها ثمنا لذلك؟! وهل عليها أن تتحسب دائما للأضرار والخسائر نتيجة أي محاولة للخلاص؟
لا حرية دون ثمن
المتابع لتجارب كل الشعوب التي نالت حريتها عبر التاريخ بطوله، وعبر الجغرافيا باتساعها، سيجد أن الحرية والكرامة والاستقلال لم تأت أبدا منحة بلا ثمن، بل دفعت الشعوب للحصول عليها أثمانا باهظة. لننظر إلى تجربة أوروبا التي تَعُد نفسها واحة الحريات الآن، والتي دفعت ثمنا غاليا للتحرر من استبداد الملوك والكهنوت والنبلاء، ولننظر إلى شعوب كثيرة دفعت أثمانا باهظة لنيل حريتها واستقلالها، وما الجزائر عنا ببعيد!
الحرية ثمنها غالٍ، ولا ينالها إلا من يدفع هذا الثمن، وبقدر ما يدفع ينال قسطا منها، منحتنا موجة الثورات العربية نافذة نعرف من خلالها طعم الحرية وقيمتها، مارسنا الحرية التي حُرمنا منها عقودا طويلة، شعرنا بكرامتنا التي انتُهكت عقودا طويلة، لمسنا العدل الذي افتقدناه كثيرا، كان ذلك كله عرضا ترويجيا للحرية، فمن أراد امتلاكها بشكل دائم عليه أن يدفع الثمن. ينطبق هذا أيضا على أي شعب تحت الاحتلال ويريد الانعتاق والحرية، فعليه أيضا أن يدفع الثمن كما دفعت شعوب أخرى سبقته “وللحرّيةِ الحمراءِ بابٌ.. بكلِّ يدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ”.
شعوبنا المحرومة من الحرية أو الاستقلال أمام اختبار عملي، فإما أنها تريد حريتها وكرامتها وجاهزة لدفع ثمن ذلك، وإما أنها قابلة للتعايش مع الاستبداد والاحتلال، ولا أظن أن هناك من يقول ذلك.