قصيدة القرضاوي التي استشهد بها قسامي
لماذا يكره الشيخ الفاصوليا؟.. وأبيات غير موجودة في القصيدة!
يموت الإنسان ويبقى أثره، والسعيد من كان أثره صالحا، باقيا بين الناس بالخير، هذا المعنى نستحضره حين سمعنا أحد شباب المقاومة من القساميين في غزة، وهو يقوم بأحد العمليات، ثم يستشهد بأبيات للشيخ القرضاوي رحمه الله، تقول:
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلماذا كان السقوط سريعا؟
دون حكم ديمقراطي رشيد.. أوطاننا في خطر
الاقتصاد السوري.. عجز تجاري سلعي وخدمي مزمن
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي، وقلبي في يدي ربي، وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصما بحبل عقيدتي وأموت مبتسما ليحيا ديني
قصيدة شعرية مشهورة للقرضاوي
اشتهرت هذه الأبيات، وذاعت وانتشرت، ولا يعلم كثير من الناس من قائلها، وهي أبيات من قصيدة كتبها القرضاوي يسجل فيها الأحداث التي وقعت في السجن الحربي، بعد سجن الإخوان سنة 1954م، بتهمة حادث المنشية، الذي اتهم فيه الإخوان بالضلوع في محاولة قتل جمال عبد الناصر، رئيس الوزراء آنذاك، ثم رئيس الجمهورية فيما بعد. ورغم أن المتهمين في الموضوع شخصان، فقد زُجّ بالآلاف من الناس لمعاقبتهم على ذلك، وكان من بينهم القرضاوي الشاب آنذاك.
كان القرضاوي في هذا الوقت يشتهر بالشعر أكثر من شهرته بالفقه والفكر، حتى تنبأ له الشيخ الغزالي بمستقبل باهر فيه، وقد شهد له بفحولته في الشعر الشيخ حسن البنا، حين ألقى قصيدة أمامه، بعنوان “يا مرشدا قاد بالإسلام إخوانا”، وكان عمره آنذاك دون العشرين، فعقب البنا بقوله: إنه لشاعر فحل.
كتب القرضاوي قصيدته “ملحمة الابتلاء”، التي اشتهرت بنونية القرضاوي، لأن أبياتها تنتهي بحرف النون، وقد استعصى عليه الشعر في بادئ الأمر في السجن، ثم كلما جاءت مناسبة سأله زملاؤه في السجن: ألم يأتك هاتف الشعر لتدوّن ما يجري لنا، وبدأت تأتيه الأبيات، وبدأ نقلها شفاهة فلا يوجد في السجن أوراق وأقلام آنذاك، فقد أخذوا منهم المصاحف والأوراق والأقلام، عقابا وحرمانا، فكان يغتنم فرصة الذهاب إلى دورات المياه، ويقول الأبيات التي قرضها، وقد كان من الإخوان من يستطيع الحفظ من مرة واحدة، ومنهم من مرتين، أو ثلاث، وبذلك تفرقت القصيدة لدى عدد من الحفاظ من نزلاء السجن الحربي.
لماذا كره القرضاوي الفاصوليا؟
لا تخلو القصيدة من أبيات حزينة، فهي تصور كيف تم اختطافه من بيته، والزج به في السجن، ومع الآلام التي عاشها، فلا تخلو القصيدة من حس فكاهي، كحديثه عن طعام السجن، وبغضه له، حيث قال:
ففطورنا عدس مزين بالحصى إن الحصى فرض على التعيين
قد عفته حتى اسمه وحروفه من عينه أو داله والسين
وغداؤنا (فاصولية) ضاقت بها نفسي فرؤية صحنها تؤذيني
ولم أر الشيخ يرفض طعاما قط، سوى الفاصوليا، فقد مثلت له عقدة في حياته، وقد حكى لي وحكت زوجته أم أولاده رحمها الله أنها سألته عما يحب ويكره في أول يوم من زواجه، فقال لها: ليست لديّ مشكلة في أي طعام، سوى طعام واحد، لا أريده أن يدخل بيتي، الفاصولية البيضاء، لقد كانت طعامي في السجن، وكرهتها، ولديّ مخزون هائل منها في معدتي، يكفيني لنصف قرن من الزمن، فلا أحب رؤيتها، ولا تذوقها.
وكان لهم عشاء طعام كان يشبهه لي الشيخ وأصدقاؤه من الشيوخ وبخاصة الشيخ محمد الراوي رحمه الله، بأنه أشبه بـ”الريم” الذي يتكون على الأحواض، وهو مادة خضراء فطرية مضرة، فلما حاروا في اسمه، أطلق عليه الراوي اسم “حنبلوط”، وعرف بين النزلاء بهذا الاسم الذي أطلقه، وذهب مازحا في مرة لحمزة البسيوني يطالبه بحق براءة الاختراع للاسم، فأكرمه بأن حكم عليه بالجلد بالكرباج، فقد كانوا يبحثون عمن أطلق الاسم، وذهب الراوي متطوعا ليخبرهم!
كيف جمعت القصيدة؟
ثم خرج الشيخ القرضاوي من السجن، وسافر بعد ذلك إلى قطر للعمل مديرا للمعهد الديني بها، وجاءت محنة 1965م، وأراد الإخوان أن يقوموا بنشاط ضد حملة عبد الناصر، فاقترح البعض وضع أبيات من قصيدة القرضاوي، التي فيها وصف للتعذيب، ولم يكن يحتفظ القرضاوي بنسخة منها مكتوبة، فبدأ بمراسلة من هاجروا من مصر، ممن يحفظونها، وكل منهم يكتب ما يحفظ، فتجمعت لديه القصيدة التي نشرت في ديوانه “نفحات ولفحات”، وبلغت حوالي 318 بيتا من الشعر.
اشتهر منها أبيات كالتي استشهد بها القسامي، وأبيات أخرى كان يستشهد بها الشيخ كشك رحمه الله في خطبه ودروسه، دون نسبة للقرضاوي، وكثير من أشعار الشيخ يستشهد بها الناس ولا ينسبونها إليه، وربما لم يتخيل أحد أن القرضاوي الذي ملأ الدنيا علما بالفقه والفكر له اشتغال بالشعر. وفي إحدى المناسبات كانت هناك أشنودة بعنوان “مسلمون”، ألقيت على مسامع الحاضرين، وكان من بينهم الشيخ الغزالي، فأعجب بها، وقال: إنها أنشودة جميلة ورائعة، مَن صاحب هذه الأبيات؟ وكان القرضاوي حاضرا بجواره، فقالوا له: من يجلس بجوارك، إنها للقرضاوي.
وكان كلما ذهب القرضاوي في أخريات سني حياته لمحاضرات في كثير من البلدان، طلب منه إلقاء أبيات من الشعر، وبخاصة من النونية، وكان يهتم بها أهل المحن من السجون، لأنها تهون عنهم ما هم فيه، وتذكرهم بما حدث، وقد حكى لي أحد مشايخ أنصار السنة المحمدية، وكان معتقلا في أحداث سبتمبر الشهيرة أيام السادات، أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان معتقلا معهم في الزنزانة المقابلة، وكانوا كل ليلة ينشدون أبياتا منها، يقول: وكان يحرص معنا على سماعها، ولم يكن يعلم أنها للقرضاوي، وإنما كان يسمع أبياتا من الشعر تصور ما يدور في السجون، ولعله أيضا لم ينتبه إلى أنها قيلت عن سجون عبد الناصر، أو يعلم.
أبيات مفقودة من القصيدة
ومما لا يعلمه كثيرون من متتبعي كتب وفكر القرضاوي، أنه إلى قبيل وفاته، كنا نفاجأ بأشخاص يحفظون القصيدة، وكانوا معه في السجن، ولديهم أبيات لم تكتب في ديوان القرضاوي، أي أن القصيدة لا تزال غير مكتملة بكل أبياتها، فأذكر في أحد الأعوام كان القرضاوي مدعوا للغداء في مكتب الإرشاد، وصحبني معه، وإذ بأحد الإخوان وهو الحاج أحمد أبو شادي، يروي أبياتا من القصيدة، وأرى شفاه الشيخ تتحرك مع الكلمات ويكمل معه، وكأنها أبيات منسية يتذكرها، فقلت له: يا مولانا هذه الأبيات ليست موجودة، فقال: نعم، وطلب مني أن أجلس مع أبي شادي لنكتبها، فقال الرجل رحمه الله مشكورا: سأسجلها لكم كاملة بصوتي، وتفرغون الصوت، وبالفعل سجلها، وأرسل التسجيل، وأعطيت نسخة منه للأستاذ حسني أدهم جرار رحمه الله، الذي كان متكفلا وقتها بجمع أشعار الشيخ في ديوان “نفحات ولفحات”، ونسخة أخرى تركتها في مكتب الشيخ آنذاك، ومع ذلك لم أجد الأبيات المفقودة في الديوان عندما نشر ضمن الأعمال الكاملة للشيخ!