مانديلا وتجربة السجن.. هل تشكل المحنة شخصية القائد ورؤيته؟!

مانديلا

كفاح مانديلا من أجل تحرير جنوب إفريقيا من التفرقة العنصرية يمكن أن يضيء الطريق لمن يحلمون بتحرير الإنسان والأوطان، وهي تجربة جديرة بالدراسة لأنها تسهم في تطوير نظريات القيادة؛ حيث إنها توضح أن الشخصية القوية يتم بناؤها عبر سنوات من المحن والآلام والمعاناة.

كنت أدرس بجامعة ليستر عندما تم إطلاق سراح نيلسون مانديلا، وقرر الطلاب الأفارقة إقامة احتفال كبير على مسرح الجامعة، واختارتني الجمعية الإسلامية بصفتي نائب رئيسها لأمثلها في الاحتفال، وبدأت كلمتي بتوجيه التهنئة لكل المقاتلين من أجل الحرية.

القيادة والمهمة الصعبة

تابعت بعد ذلك مسيرة مانديلا وفوزه في انتخابات الرئاسة، وبرنامجه الذي تقدم به، وأعلن فيه أنه يبسط يده لكل فرد في جنوب إفريقيا من بيض وسود، وأن رسالته هي الدعوة إلى المصالحة، وتضميد جروح الأمة، وإحياء الثقة والاطمئنان للجميع.

وأضاف مانديلا: إن نضال التحرير لم يكن حربا ضد مجموعة عرقية بعينها؛ بل ضد الظلم والقمع، وعلى جميع أبناء جنوب إفريقيا أن يتكاتفوا ويتحدوا، ويمسك بعضهم بأيدي بعض معلنين أننا بلد واحد، وشعب واحد نسير صفا واحدا نحو المستقبل.

يوم تنصيبه رئيسا للبلاد قال مانديلا: إن وجودنا اليوم هنا يضفي المجد والأمل على حرية تولد من جديد؛ فمن رحم تلك المأساة الإنسانية الهائلة التي دامت طويلا يولد اليوم مجتمع تفتخر به الإنسانية؛ فالحرية ليست مجرد التخلص من الأغلال، بل الحرية هي أن تعيش حياة تحترم فيها حرية الآخرين وتعززها؛ لذلك فإننا في بداية المحك الحقيقي لاختبار مدى إخلاصنا للحرية.

الديمقراطية تحقق التقدم!

بعد فوزه بالرئاسة بدأ مانديلا تحقيق المهمة الصعبة التي لم يكن أحد يتخيل أنه يمكن تحقيقها، وهي توحيد مجتمع عاش فيه السود عشرات السنين يعانون الظلم والقهر والاضطهاد؛ فكيف يمكن تحقيق المصالحة والتسامح كأساس لمستقبل المجتمع؟!

لكن مانديلا نجح في تحقيق مهمته، ووحد المجتمع؛ فبدأ تشكيل حكومة وحدة وطنية لمدة 5 سنوات تشارك فيها كل الأحزاب، لكن الأهم من ذلك أنه أطلق حرية الصحافة والإعلام، وأثبت للعالم أن هذه الحرية أهم مصادر قوة المجتمع الجديد، وأن الآراء المتنوعة تسهم في حل المشكلات، وفي إطلاق قدرات الشعب، واستثمار ثرواته، وبذلك بدأت الدولة تتقدم وتنهض، ويشعر كل فرد فيها بأنه ينتمي لهذه الدولة التي تضمن له فرصا متساوية مع الجميع.

وشكلت وسائل الإعلام الحرة صورة إيجابية للدولة في إفريقيا، فأصبحت كل الشعوب الإفريقية تتطلع لتجربتها خاصة في مجال التعليم، فهو أساس التقدم.

قرأت مذكرات مانديلا منذ سنوات، ثم أعدت قراءتها وأنا أطور نظرية القيادة القائمة على المبادئ؛ فتجربة مانديلا توضح أنه لا يكفي التعبير عن المبادئ، بل يجب أن يُضحَّى دفاعا عنها.

ولقد عاش مانديلا ثلاثين عاما يعاني كل أشكال الألم والاضطهاد في سجنه، لذلك توصل إلى حقيقة مهمة هي أن الأمم تعرف بسجونها؛ إذ ينبغي الحكم على أمة ما من خلال معاملتها لأدنى مواطنيها، وليس لأرقاهم.

لكن العقوبات لا تردع الرجال

أمام المحكمة قال مانديلا للقاضي: إن التاريخ يشهد أن العقوبات لا تردع الرجال عن اتباع ما يعتقدون أنه حق؛ لذلك أنا مستعد لتقبل الجزاء رغم علمي بقسوة الأوضاع في السجون، وأعلم فداحة التفرقة العنصرية التي تمارس ضد الإفريقيين حتى وراء القضبان، لكن ذلك لا يثني الرجال عن الكفاح من أجل الحرية؛ فهي قمة ما تتطلع له نفوسهم، وليس بإمكان أية قوة أن تدفع المؤمنين إلى التخلي عما يؤمنون به.

وأضاف مانديلا: مهما كانت العقوبة فسيظل بغضي للتفرقة العنصرية ضد أمتي يحرك مشاعري وضميري، وبعد أن أخرج من السجن سأواصل النضال بكل الوسائل من أجل إزالة كل مظاهر الظلم حتى تزول من الوجود.

من هم المجرمون؟!!

قال مانديلا للقاضي: لقد أديت واجبي اتجاه قومي، ولا شك عندي في أن التاريخ سيذكر أنني بريء، وأن المجرمين الذين ينبغي أن يقفوا أمام هذه المحكمة هم أعضاء الحكومة.

بالرغم من ذلك حكم القاضي بالسجن مدى الحياة على مانديلا، وذهب مكبلا إلى السجن الذي يقول عنه: إنه لا يسلب الإنسان حريته فقط، بل ينتزع منه هويته كذلك؛ فالسجن نظام استبدادي قهري لا يقبل الاستقلال أو تميز الشخصية، وعلى المناضل أن يقاوم طغيان السجن.

وظل مانديلا في سجنه متمسكا بهدفه وهو إقامة مجتمع ديمقراطي حر يعيش فيه الجميع في وئام ومساواة، وهو هدف أرجو أن أعيش له وأحققه، أو أموت من أجله إن لم يكن من ذلك بد.

انتصارات داخل السجن!

هل يمكن أن يحق السجين انتصارا؟! يقول مانديلا: هناك انتصارات تتمثل أمجادها في أنها لا يعرفها سوى أصحابها، ويظهر ذلك في المعتقل عندما يثبت الإنسان إخلاصه لما يؤمن به وإن لم يكن أحد غيره يعلم بذلك.

فالسجان هدفه أن يسلب الإنسان كرامته، لكنني انتصرت عندما أثبت أنني لن أتخلى عن كرامتي مهما كان الثمن، وتحت أي ضغوط. ومما ساعد مانديلا على الصمود أنه كان يعتقد أنه سيخرج من سجنه، وأنه سيتمتع بنور الشمس الساطعة وهو حر طليق، لقد حافظ على تفاؤله لذلك ظل رأسه مرفوعا إلى السماء، وخطاه متجهة إلى الأمام، فاليأس هو الإخفاق والموت المحقق.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان