أمريكا وترامب ومآلات عهده الثاني؟
عاد إذن معسكر المستوطنين البيض الأنجلوساكسون البروتستانت (WASP) قابضًا على السلطة التنفيذية بالبيت الأبيض، والسلطة التشريعية بمجلسي الشيوخ والنواب وأغلب حكومات الولايات والمقاطعات.
إن خروج نخبة العولمة النيوليبرالية من السلطة بعد كوارث ألحقوها بأمريكا والعالم في سنوات إدارة بايدن المنصرفة، لا يعني أن دونالد ترامب وإدارته القادمة سيكونان بردًا وسلامًا على عالم بائس، يرزح تحت وطأة المشروع الاستيطاني الغربي وتنكيله بالبشرية 5 قرون إمبرياليًّا ورأسماليًّا وعنصريًّا وفاشيًا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsسقوط “زعيم الشبيحة”.. هل من متعظ؟
ثورة سوريا… بين هروب الأسد وظهور الضباع
الثورة السورية من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
ترفض الكتلة التصويتية التي أعادت ترامب وتياره إلى البيت الأبيض النظر إلى بلادها بدون هوية إثنية، موحدة باعتبارات سياسية وبنية دستورية وتاريخ خاص والتزام قوي بالديمقراطية. بل يرونها في إطار قومي إثني يتمحور حول البيض المسيحيين المهددين بزعمهم بأخطار الهجرة والتعددية العرقية والدينية.
عزوف الناخبين
جاء صعود التيار القومي الإثني نتيجة امتعاض الطبقات العاملة والريفية من سياسات العولمة والنيوليبراليين (الجدد) الذين لطالما راهنوا على حسم السباق الانتخابي عبر تصويت الطبقة الوسطى العليا المتعلمة والأقليات السوداء واللاتينية.
لكن الحركية الاجتماعية كجوهر الحلم الأمريكي تراجعت كثيرًا؛ مما انعكس سلبا، بتفاقم التفاوت وعدم المساواة بالمدن الصناعية الراسخة، وانهيار آفاق الصعود المهني والاجتماعي.
سبق مثل هذا الوضع صعود النازية بألمانيا في الثلاثينيات ومهّد لها، حيث تركز التطرف بأوساط العاطلين وأصحاب المهن الهشة والطبقة الوسطى والدنيا التي تحذر أخطار التراجع والانهيار. في الولايات المتحدة، برزت قاعدة اجتماعية مماثلة، هي الدعامة الأساسية لـ”الترامبية”، بينما تسعى قيادات ديمقراطية لإعادة الاعتبار للنقابات العمالية وحركة الشغيلة وفق قيم المساواة الاجتماعية والديمقراطية الدستورية.
لم تنجح المرشحة الديمقراطية، كمالا هاريس، في تنشيط الليبرالية الأمريكية عبر تجديد المسألة العمالية في أفق العدالة الاجتماعية من حيث هي محور الخطاب السياسي للحزب “الديمقراطي”. عزف الناخبون عن التصويت لهاريس باعتبارها “الشر الأقل” مقارنة بترامب، إذ لم يروا أنها الإجابة الصحيحة ورفضوا إرغامهم على اختيار مرشحة غير مستساغة؛ مما يجعل التصويت لها غير متصور، ولو كان البديل أسوأ.
“الدين المدني”
طرحت هاريس قضايا تظهر فظاعتها وفظاعة حملتها، وتشمل الهجرة والاقتصاد. فقد أخبرت، مرارا وتكرارا، المكافحين لدفع إيجاراتهم أنهم يعيشون في “جنة بايدن الاقتصادية”، واحتضنت مجرم الحرب ديك تشيني وابنته. وتحدثت عن إجراءات تشديد الحدود والأسوار لمهاجرين شرعيين يسعون للمّ شمل عائلاتهم.
ستظل القومية المسيحية البيضاء حاضرة بكثافة في السياسة الأمريكية، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات الأخيرة والقادمة. تتغذى هذه النزعة من مفهوم الدين العام أو “الدين المدني” كمرجعية صلبة للمجتمع الأمريكي، وإن اختزلت في طابع إثني أنجلوسكسوني ضمن النسيج القومي الأمريكي.
نشأ الدين المدني الأمريكي، دين الدولة، ومؤسسات “العدالة” والإدارة والشرطة وفرض القانون والعلاقة بالعالم، عن أيديولوجية المستوطنين “البيوريتانيين” الأوائل الذين طُردوا من إنجلترا بعد انهيار ثورة كرومويل، مُكرسًا فكرة أن يهوه “رب العهد القديم”، بعنصريته وعنفه وشراسته هو “المرجع الأعلى”!
وهذا يفسر شراسة الدولة الأمريكية وعنفها وسلطويتها وعنصريتها وعدوانيتها وغشمها وتطرف قوانينها. وقد قال حاخام مهم في كتاب عن تاريخ اليهود بأمريكا، إن الأمريكيين “أكثر يهودية منا” لأنهم “تبنوا كل أفكارنا”، وقارن بين “يهود الجسد (أمريكا)، ويهود الروح الذين هم نحن”!
نخبة الإبادة الجماعية
في الواقع السياسي الأمريكي، سيتواصل الاستقطاب بين النزعتين “الليبرالية” و”القومية الدينية”، فالبلاد سائرة نحو تصدع فكري واجتماعي حاد، قد يقترب من خطر الحرب الأهلية التي يحذر منها كثيرون من مختلف الاتجاهات.
تتحمل النخبة العولمية الليبرالية الإمبريالية المتسلطة على الحزب الديمقراطي مسؤولية الإخفاق في طرح برنامج اجتماعي سياسي اقتصادي يوحد مكونات ناخبي الحزب من الطبقة الوسطى المتعلمة والتقدميين والشباب والنقابات والأقليات الدينية والإثنية وهي أوسع من دائرة ناخبي الحزب الجمهوري.
تصرّ هذه النخبة على تقديم أجندتها الإمبريالية المتواطئة مع نخب غربية مماثلة قبل مصالح أغلبية الأمريكيين، وعلى إذكاء الحروب والصراعات واستباحة العالم، وفرض سياسات اقتصادية نيوليبرالية لاإنسانية دوليا، وتجاوز معايير النظام الدولي القائم على القانون الدولي والدولي الإنساني.
سيفاقم هذا أزمة الحزب كما في الانتخابات الأخيرة. وكان إصرار كمالا هاريس وأنتوني بلينكن وجيك سوليفان وبريت مكغورك وجون كيربي ونخبة بايدن وكبار ممولي حملتهم الانتخابية الصهاينة على استمرار الإبادة الجماعية بغزة بلا حدود ثم امتدادها إلى لبنان، أحد أهم عوامل إحباط ناخبي الحزب الديمقراطي وصدهم على التصويت لهاريس ومرشحي الحزب!
جاءت الإبادة المتواصلة بغزة كابوسا بل كارثة لا تصدق، وتجد طريقها يوميا إلى هواتف ناخبين لم يتخيلوا يوما إمكان حدوثها في حياتهم وأن بلادهم هي الشريك الأكبر فيها. أما في المعسكر الجمهوري فالإبادة قد لا تتجاوز عبارة Déjà vu، لأنها جزء أساسي من المشروع الاستيطاني الإمبريالي الممتد.
أجندة ترامب
ترافقت ظاهرة ترامب، منذ عشر سنوات، مع خروج الصراع السياسي عن محدداته وتقاليده المألوفة، بحكم طبيعة شخصية ترامب، وإن كانت أيضا نتاجا وتعبيرا عن حالة أمريكية خالصة، لكنه ترك بصمته الخاصة على المشهد السياسي، باعتباره قادما من خارج مؤسسة الحكم بل خارجا عليها وعلى الدولة العميقة.
تتجاوز النزعة القومية القائمة على هوية إثنية ودينية حتما الطابع “المدني” المفترض للتجربة الأمريكية. بل يبقى تحقيق مطالب المساواة والعدل الاجتماعي رهن مقاربات متصادمة تُخشى مآلاتها المستقبلية. إذ لم تشهد التجربة الأمريكية تاريخيا إلا قليلا من التنوير وحركات التغيير الاجتماعي والحقوق المدنية التي كانت تقابل، بعنف بالغ وقمع وسفك الدماء، خاصة احتجاجات عبيد المزارع وعمال المصانع.
عبّرت بعض الكتابات المضادة لترامب عن توق شديد لأن ترى أجندة ترامب التي صوتت لها قاعدته الانتخابية موضع تنفيذ، وتداعيات ذلك على ناخبيه من فقراء المستوطنين البيض الذين لن ينالوا خيرا يذكر بقدر ما ستذهب المكاسب لمتمولين كبار مولوا حملة ترامب أمثال ملياردير كازينوهات نوادي القمار المقبور شيلدون أديلسون ووريثته زوجته الإسرائيلية مريام أديلسون.
الفاشية قادمة
وعبر آخرون عن خشية حقيقية من قمع حرية التعبير المكفولة دستوريا؛ وفي ضوء سيطرة معسكر ترامب على السلطات الدستورية الثلاث، يتوقع مفكرون أمريكيون رئاسة أحادية الجانب!
منذ قرن من الزمان، شهدت فترة بين الحربين العالميتين، صعود الفاشية بأوروبا، خاصة إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، على خلفية أزمات طاحنة خلفتها الحرب العالمية الأولى دمارا وإفلاسا وفقرا مدقعا وبطالة واسعة، خاصة بين الجنود العائدين من الحرب، وزرعت هذه الموجة الفاشية بذور توترات وصراعات أشعلت الحرب العالمية الثانية.
آنذاك، أُثر عن الشاعر والكاتب الروائي الأمريكي الشهير بانتقاده للمادية والرأسمالية، سنكلير لويس (1885-1951)، قولٌ سارت به الركبان هو: “عندما تأتي الفاشية إلى أمريكا ستكون متدثرة بالعلم القومي وتحمل صليبًا”!
وهكذا اكتملت شروطها الآن: أزمات طاحنة، توترات وصراعات عالمية، نزعة قومية دينية، صليب يحمله ترامب، و”صليبيون جدد” رشحهم لقيادة عهده الثاني…