إثيوبيا تقود مؤامرة في منابع النيل
أعلنت ست دول من حوض النيل في بيان عن دخول اتفاقية إطار التعاون لحوض نهر النيل، والمعروفة باسم اتفاقية الإطار التعاوني أواتفاقية عنتيبي، حيز التنفيذ في يوم 13 أكتوبرتشرين الأول الماضي. واعتبر البيان دخول الاتفاقية حيز التنفيذ لحظة حاسمة في تاريخ حوض نهر النيل. ورغم خطورة الموقف، جاء رد مصر والسودان على تفعيل الاتفاقية ساذجا.
فرغم أن نهر النيل شريان الحياة لمصر على الأقل، وخطورة الحدث على الحياة في البلدين، لم يزد رد الفعل عن بيان مشترك أكدت فيه الدولتان رفضهما للاتفاقية، وأنها غير ملزمة لهما وتخرق مبادئ القانون الدولي. ونبه البيان، في سذاجة، على الدول الموقعة على الاتفاقية أهمية الالتزام بالإخطار المسبق لهما بشأن مشاريع المياه على نهر النيل. وبلهجة الغافل عن موازين القوى الجديدة في حوض النيل، عبرت الدولتان عن خيبة أملهما في دول الحوض التي وقعت الاتفاقية.
في المقابل، رحبت إثيوبيا بالحدث، واعتبر رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، في تغريدة له على منصة إكس، ذلك اليوم بداية حقبة جديدة لدول حوض النيل. وكشف عن أن توقيع جنوب السودان على الاتفاقية لاستكمال شرط نصاب الدول الست، كان تتويجاً لرحلة طويلة وجهود قادتها إثيوبيا. والحقيقة أن دولة بوروندي وقعت الاتفاقية في سنة 2011، ولم تصدق عليها إلا في سنة 2023، بعد جهود إثيوبية وتفريط مصري مريب.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل بدأ سقوط الطغاة وانتصار إرادة الشعوب من دمشق!
الصمود لا يمنع السقوط.. “بشار” طويل القامة قصير النظر!
أين الله مما يحدث لسوريا؟ وجاء الجواب!!
وقبل أربع سنوات، كشفت إثيوبيا في خطابها لمجلس الأمن في سنة 2020 ردا على خطاب مصر الرافض للملء الأول لسد النهضة أنها بذلت جهودا حثيثة على مدار عقدين من الزمان لإطلاق مبادرة حوض النيل سنة 1999، وأنها كانت الأساس لتوقيع اتفاق الإطار التعاوني، عنتيبي، في سنة 2010. ما يعني أن إثيوبيا تقود مؤامرة منذ سنة 1979 من أجل إنجاز هذا الاتفاق المشؤوم، الذي يجرد مصر الغافلة عن حقوقها المشروعة، وفق مبادئ القانون الدولي والإنساني، من حقها في المياه والحياة.
لجنة حوض النيل تخدم مصالح إثيوبيا
اتفاقية حوض النيل لا تخدم الدول الموقعة عليها بقدر ما تخدم إثيوبيا وحدها. فالنيل الأبيض ليس المصدر الرئيس للمياه في هذه الدول. والنيل الأبيض يرفد نهر النيل بـ15% فقط من المياه، ومن غيره لن تعطش مصر، رغم أهمية كل قطرة ماء لمصر. وتصديق جنوب السودان على الاتفاقية ودخولها حيز التنفيذ ليس هدفا في حد ذاته. ذلك أن أحمد وصف الجهود الدبلوماسية التي خاضتها دولته وتوجت بإنجاز توقيع جنوب السودان لهدف أسمى يخدم مصالح إثيوبيا: إثيوبيا وحدها، وهو إنشاء “لجنة حوض النيل”، وفق تصريح أحمد. وهناك دول مثل كينيا وبوروندي وقعتا الاتفاقية وأخرتا التصديق عليها وعارضتا إنشاء اللجنة لسنوات، ووقعت بوروني العام الماضي فقط.
لجنة حوض النيل المزعومة، سيكون هدفها وضع مبادئ اتفاقية عنتيبي محل التنفيذ، وهي المبادئ التي تصب في مصلحة إثيوبيا التي تتحكم في النيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بـ85% من مواردها المائية. وترفضها دولتا المصب، مصر والسودان، وهي إلغاء الاتفاقيات التاريخية والحصص المائية الحالية والإخطار المسبق، وإقرار الإستخدام العادل. وستمرر إثيوبيا قرارات بناء السدود على النيل الأزرق من خلال التصويت بالأغلبية المطلقة للدول الأعضاء، والتي أصبحت في صف إثيوبيا بمعدل ست دول، في مقابل خمس دول لم توقع عليها. وقد أعلن آبي أحمد أن بلاده ستبني 100 سد جديد عندها.
وتأكد في إعلان دخول الاتفاقية حيز التنفيذ النص على أن أحد الجوانب الرئيسية لاتفاقية الإطار التعاوني هو ضمان أن يكون لجميع الدول المشاطئة “صوت” في إدارة موارد النهر. وهو ما كانت مصر تعارضه بشدة. وهو تجييش وإعلان حرب على مصر الغائبة تماما عما يحاط ضد أمنها المائي الذي يشكل سر وجودها وركيزة أمنها القومي.
في التسعينيات، حذر خبراء مصريون وأجانب من أن مؤامرات تحاك لمصر في أعالي النيل وتقودها إثيوبيا بتجييش دول حوض النيل الأبيض لإبرام اتفاقية عنتيبي، وكان موقف النظام المصري متخاذل، ورد رئيس الوزراء المصري حينها أحمد نظيف بمنطق النعامة التي تدفن رأسها في الرمال كي لا تدفع كلفة مواجهة الخطر المحتمل، فيلتهمها الخطر المحدق دون مقاومة.
في يونيو سنة 2009، نقلت وكالة الأنباء السعودية نفي نظيف وجود مؤامرة على حصة مصر من مياه النيل، وأفاد بأن حصة مصر مصونة بضمانات الاتفاقيات القديمة وأن بلاده لن تقبل أي مساس بحقوقها التاريخية وحصتها السنوية. وصرح بعنترية أن هناك ثلاث نقاط خلاف في الاتفاقية لن تتنازل عنها مصر، الأولى: احترام الاتفاقيات الدولية، والثانية: موافقة مصر على أي مشروعات جديدة تنشأ على مجرى النهر، والثالثة: تمرير القرارات من خلال التصويت بالأغلبية، وهو منطق مرفوض وفق نظيف، حيث تشترط السودان ومصر أن يكون الإجماع هو الأساس في التصويت لأنهما دولتان في المصب أمام سبع دول في المنبع.
وبعد شهور عدة، وفي مايو/أيار 2010 قررت خمس من دول المنبع التوقيع على الاتفاقية الإطارية في مدينة عنتيبي الأوغندية، وتنهي الحصص التاريخية لمصر والسودان وتفرض إعادة تقسيم المياه، وتسمح لدول المنبع بإنشاء مشروعات مائية دون موافقة مصر والسودان، ومنحتهما عاما واحدا للانضمام إلى المعاهدة، فاتخذت الدولتان قرارا بالصمت ودفن الرأس في الرمال، فوصلنا إلى دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، وما كان مهابا أصبح متاحا وكلأ مباحا.
الاتفاقية لا تنصف استخدام المياه
جاء في بيان إعلان دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، إن اتفاقية الإطار التعاوني، هي شهادة على التصميم الجماعي على تسخير نهر النيل لصالح الجميع، وضمان استخدام (equitable) لموارد النيل. وكلمة equitable الواردة في هذه الاتفاقية تحتمل ترجمتها الحرفية أن تكون بمعنى عادل، أو منصف.
وفارق جوهري وخطير بين الاستخدامين، العادل والمنصف، رغم أن معناهما باللغة الإنجليزية واحد وهو equitable. والاستخدام “العادل” يعني المعنى المطلق للعدل، وهو التوزيع المتساوي، بغض النظر عن أي اعتبار آخر. أما الاستخدام “المنصف” فلا يعني المتساوي بالضرورة، بل يأخذ الاعتبارات الأخرى في الحسبان عند توزيع مياه النيل بين دوله، مثل عدد السكان وتوفر البدائل والاستخدامات الحالية والحصص التاريخية، على التفصيل الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة. هذه ملاحظة أولى.
أما الثانية، فقد جاء في بيان دخول الاتفاقية حيز التنفيذ أن “المساواة” هي من الركائز الحاسمة لهذه الاتفاقية، وأنها تهدف إلى تصحيح “الاختلالات التاريخية” في الوصول إلى مياه النيل والتقاسم العادل لهذه المياه. ذلك أن عبارة تصحيح الاختلالات التاريخية، تعني إلغاء الاتفاقيات التاريخية والحصص المرتبطة بها، وهي دليل دامغ على أن كلمة equitable في هذه الاتفاقية تعني الاستخدام العادل وليس المنصف.
والثالثة، أن اتفاقية عنتيبي صدرت بلغتين فقط، هما الإنجليزية والفرنسية. أما اتفاقية الأمم المتحدة لاستخدام أنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية فصدرت بلغات الأمم المتحدة الست الرسمية، بما فيها اللغة العربية. وكفت النسخة العربية جهد تعريف كلمة equitable الواردة في النسخة الإنجليزية للاتفاقيتين: عنتيبي والأمم المتحدة. وقد جاءت في اتفاقية الأمم المتحدة نصا بأنها “الانتفاع المنصف”. ولم ترد كلمة العادل Justice أو fair إطلاقا في هذه الاتفاقية، إلا للإشارة لمحكمة العدل الدولية.
الرابعة، أن وكالة الأنباء الإثيوبية أوردت إعلان رئيس الوزراء ٱبي أحمد ووزيري الري والخارجية عن دخول اتفاقية حوض النيل حيز التنفيذ باللغتين، العربية والإنجليزية. وجاء في النص العربي على لسانهم جميعا أنه يمثل تتويجًا لرحلة طويلة نحو الاستخدام “العادل” لمياه النيل. وجميعهم لا يجهل أن كلمة equitable الواردة في عنتيبي واتفاقية الأمم المتحدة تعني “المنصف” في اللغة العربية. الأكثر من ذلك أنه جاء في خطاب إثيوبيا لمجلس الأمن في سنة 2020 أن إثيوبيا تؤكد على حصتها العادلة fair والمنصفة equitable من مياه النيل.
الأمم المتحدة تقر الاستخدام المنصف وليس العادل
للتأكيد على أن اتفاقية حوض النيل استخدمت كلمة equitable بمعنى عادل وليس منصف، أن المسؤولين الإثيوبيين استخدموا كلمة عادل، بدلا من منصف عامدين عن علم ينفي الجهالة، سألت كبير المترجمين بالأمانة العامة للأمم المتحدة، الأستاذ عبد الستار محفوظ، وقد قام، بحكم وظيفته، بترجمة ومراجعة تراجم خطابات مصر والسودان وإثيوبيا في مجلس الأمن بشأن قضية سد النهضة من اللغة الإنجليزية إلى العربية، وقد سبق بيننا حوار قبل سنوات حول اتفاقية قانون الأمم المتحدة لاستخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، سألته، هل كلمة equitable تعني عادل في هذه الاتفاقية، فأجاب: لا.
فسألته، لو قصد المشرعون استخدام كلمة “عادل” بمعناها المطلق في اتفاقية عنتيبي أو اتفاقية الأمم المتحدة لاستخدام مياه الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية، ماذا كانوا سيستخدمون من مفردات اللغة الإنجليزية؟ فأجاب: يستخدمون كلمة fair أو just. بدليل أن محكمة العدل الدولية تسمى بالإنجليزية International Court of Justice. وهذا دليل خامس على أن اتفاقية حوض النيل تتعارض مع مبادئ القانون الدولي للمياه واتفاقية قانون الأمم المتحدة لاستخدام مياه الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية لسنة 1997.
وهذا يعطي مصر والسودان المبرر لرفع ملف الاتفاقية، وكذلك قضية سد النهضة، إلى محكمة العدل الدولية، كخطوة أولية لا تغني عن الخيارات الأخرى بما فيها العسكري، للحفاظ على حقها في المياه وفي الحياة، والذي يسبق في القانون الدولي أي حق آخر. وهي خطوة تأخرت كثيرا لأسباب غير معلومة. سيما أن إثيوبيا كشفت عن نوايا غير طيبة بعد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ. وقال وزير المياه الإثيوبي هابتامو إيتيفا إن اتفاقية الإطار التعاوني لنهر النيل ستحدث “تحولًا كبيرًا نحو استخدام موارد المياه”.
ذلك أن المحكمة كانت قد حكمت بين دولتي المجر وتشيكوسلوفاكيا في القضية المتعلقة بمشروع سد غابتشيكوفو- ناغيماروس على نهر الدانوب العابر للحدود بين الدولتين. وقضت في 25 سبتمبر سنة 1997 باحترام الاتفاقيات التاريخية بين الدولتين، وإقرار مبدأ الاستخدامات الحالية وعدم الضرر. وهي المبادئ التي تنكرها اتفاقية حوض النيل، وتسعى إثيوبيا لتنفيذها في حوض النيل الأزرق، على نحو يحقق ضررا وجوديا على الحياة الإقتصادية والزراعية والصناعية في مصر وكذلك على استقرارها السياسي والإجتماعي، وهي التي تعتمد في احتياجاتها المائية على نهر النيل بنسبة 97%.