“مطاريد إسرائيل” تحت الحصار

المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان (الفرنسية)

يبدو مجرما الحرب الإسرائيليان، نتنياهو ووزير دفاعه المقال يؤاف غالانت، بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض عليهما، كمطاريد الجبل الفارين من العدالة.

والمطاريد مصطلح كان يُطلق على عتاة المجرمين في صعيد مصر، ويُرجع مؤرخون ظهورهم إلى عهد المماليك، وكانوا مسلحين معتدين يرتكبون أشنع الجرائم، ويلوذون بأعالي الجبال ليسكنوا الكهوف مع الأفاعي والعقارب، ويتجشمون ضنك العيش حتى لا يسقطوا في يد القانون.

وكان المطاريد رغم ما يروى عن فظائعهم لديهم من المروءة ما لا يملك نتنياهو وغالانت منه مثقال ذرة، تحكمهم تقاليد قبلية محترمة حتى أنهم أوقفوا أعمال السطو والنهب إبان حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، وهو الأمر الذي سجلته محاضر الشرطة، واستحوذ على اهتمام دارسي الجريمة في إطار كونها ظاهرة اجتماعية.

أيًا ما يكن من دقة المقاربة، فإن قرار ضبط نتنياهو وغالانت يضع الأمور في نصابها ويؤكد المؤكد “بقرار دولي”، من أنهما مجرما حرب، بما يمثل انتصارًا يُضاف إلى سلسلة الانتصارات الأخلاقية الكبرى للقضية الفلسطينية، منذ اندلاع “طوفان الأقصى”.

غير أن ما وراء القرار وما حوله من ملاحظات لا ينحسر في الشق الأخلاقي المعنوي، الذي يذهب معارضو المقاومة المرجفون إلى أن الإفراط في حديثه، ينبثق من رومانسية لا قيمة لها بالنظر إلى موازيين القوة العسكرية بين المقاومة المحاصرة من العدو والشقيق، ودولة الاحتلال التي تُفتح لها “مغارة على بابا الأمريكية”، أو قل “بايدن أو ترامب بابا”، فتنتقي ما تشاء من قنابل محرمة دوليًا، وصواريخ خارقة، وأجهزة تنصت إلى آخره.

وبعيدًا عن ادعاءات المرجفين، وبمنأى عن تفنيدها، فإن تداعيات قرار المحكمة الدولية ليست معنوية فحسب، إذ تثير ملاحظات موضوعية لا ينبغي أن تمر بغير تمعن.

المجرمون يستنكرون الإدانة.. منتهى التبجح!

من اللافت -أولًا- أن دولة الاحتلال لم تتعاطَ القرار باعتباره حدثًا غير ذي تأثير، فإذا بمكتب نتنياهو يستنكر، وبن غفير يشجب، وسموتريتش يندد، والرئيس إسحاق هرتسوغ يهرع إلى منصة التدوينات “إكس” صارخًا مُولِّولًا.

رد فعل ليس مفاجئًا، فأفراد العصابة لا بد أن ينفروا حين يُدان أحدهم، ومنطقيٌ أن يهبوا للدفاع عن بعضهم بعضًا، وفي الحالة الصهيونية فإن ورقة التوت التي تستر العورات، تتمثل دائمًا في معاداة السامية، تلك الفزاعة التي طالما كان استدعاؤها ينقذ الصهاينة من سداد ثمن جرائمهم.

ويرتبط بهذه الملاحظة أن “هبة الدفاع” عن نتنياهو وغالانت لم تقتصر على أعضاء الحكومة اليمينية، إذ نفر أشد المعارضين لدادًا فرادي وزرافات للذود عنهما.

من ذلك مثلًا أن يائير لابيد، زعيم المعارضة، المشتاق كل الشوق إلى الجلوس على مقعد نتنياهو، الذي طالما انتقد الأخير لرفضه وقف الحرب قال: “القرار مكافأة للإرهاب”.

كذلك يصطف الصهاينة، إذ يحيق الخطر، يتناسون ما بينهم من خلافات، وينبذون صراعات السياسة حفاظًا على “مصلحة الكيان العامة”.

ذاك درس للعرب الذين ما زالوا منذ طوفان الأقصى يتراشقون الاتهامات، إثر الخلاف حول جدوى حراك المقاومة، في مشهد بالغ الرثاثة والكآبة والبؤس، ولا يليق أبدًا فيما تخوض الأمة حربًا وجودية.

فضلًا عن اصطفاف فريقي الحكم والمعارضة في دولة الاحتلال، ثمة ملاحظة تتعلق بالولايات المتحدة، وهي ملاحظة لا تبدو غريبة في جانب بل هي منطقية كليًا، وتبدو فظة استثنائية في الوقت ذاته.

الجانب المنطقي أن إدارة الرئيس بايدن، هرعت إلى استنكار قرار المحكمة، فإذا بالعجوز الذي يحزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض مطاردًا بلعنة الدم الفلسطيني يقول: “إنه قرار مشين”، فيما شن نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي هجومًا ضاريًا على المحكمة فوصفوها بالانحيار للإرهاب.

إدارة ترامب تهدد المنظمة الدولية.. أليست بلطجة؟

أما ما هو فظ واستثنائي أن إدارة الرئيس المنتخب ترامب هددت بلغة خشنة، تنضح صلفًا أو قُل “بلطجة” المحكمة، وكان ذلك على لسان مايك والتز مستشار الأمن القومي الأمريكي، الذي قال حرفيًا: “توقعوا ردًا قويًا على انحياز الجنائية الدولية في يناير المقبل”، أي بعد مراسم تسلم الرئيس الجديد.

هكذا تبدو الولايات المتحدة مارقةً أكثر من أي وقت مضى عن تقاليد الدبلوماسية الدولية، لا تستحي أو تستشعر الخجل إزاء تشوهات صورتها أمام دول العالم الذي أيَّد القرار، إما انطلاقًا من أنها لم تعد تطيق العبء الأخلاقي للإجرام الإسرائيلي، وإما على مضض كما في حالة بريطانيا، التي أصدرت خارجيتها بيانًا أعبرت فيه عن احترامها للقرارات الدولية في جميع الحالات.

في صدد قراءة “لهجة مستشار ترامب” قد يقال الكثير عن الانحياز الأمريكي لإسرائيل، وقد تُجتَّرُ المحفوظات التراثية بشأن سياسة الكيل بمكيالين، وهذا كله صحيح وفي سياقه، لكن الأمر أخطر من ذلك وأعمق أثرًا.

المسألة أن إدارة ترامب تسفر مبكرًا عن ملامحها القاسية بغير تجُمَّلٍ، وتكشف عن استعدادها لأن تنهال بالمعاول، لتحطيم المنظمات الدولية إنْ مست ربيبتها الاستراتيجية.

متغير بالغ الخطورة على العلاقات الدولية، وسيمثل ذريعة مستقبلية لازدراء الجنائية الدولية، في حالات أخرى منها حالة الرئيس بوتين في روسيا.

أما الملاحظة الثالثة وهي الأهم، فتتعلق بآفاق القدرة على شن معركة دبلوماسية ضد الاحتلال، بالتوازي مع المقاومة على الأرض.

حين توجهت جنوب إفريقيا للجنائية الدولية، لملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة، ومضت في المسار القانوني إلى نهايته قدمت مثلًا ملهمًا على أن هناك مساحة لمسار ينبغي السير فيه، على سبيل محاصرة الاحتلال وفضح جرائمه أمام “الضمير الإنساني العالمي”.

الدرس أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وما يماثلها من منظمات أممية، يجب أن يمثل حراكًا في سياق الدبلوماسية الناعمة، يستفيد مما لها من تأثير في ظل الثورة التقنية وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والذكاء الاصطناعي.

هكذا أوصى الباحث عبد الحسين شعبان، في دراسته المعنونة “القدس في ميزان محكمة العدل الدولية”، وفيها استشهد بقرار المحكمة سابقًا ضد جدار الفصل العنصري، لكن هذه التوصية لم تجد مهتمًا من العرب، فيما عمل بها أحفاد مانديلا.

يجب أن يكون “مطاريد إسرائيل” دائمًا تحت الحصار دبلوماسيًا، ولا ينبغي إغفال أي مسار قانوني لتحقيق ذلك، مهما كان الميزان الغربي مختلًا، وبغض النظر عن موقف واشنطن التي لا يعول عليها إلا أحمق.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان