الاستدانة والتعويم.. 8 سنوات على قرارات قاسية!

اتفاق مصر مع صندوق النقد يتضمن العمل على تخفيض الدعم الحكومي للوقود
صندوق النقد الدولي (غيتي)

يواجه الجنيه المصري تراجعًا جديدًا حاليًّا أمام الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الأخرى.

سجل الدولار 49.62 جنيها للشراء، و49.72 جنيها للبيع، صباح الأحد الـ24 من الشهر الجاري.

التراجع مستمر ليصل الدولار إلى 50 جنيها عما قريب، وهذا ليس من فراغ، إذ إن مرونة سعر صرف الجنيه من أبرز مطالب صندوق النقد من مصر.

وكانت بعثة للصندوق التي ترأستها مديرته كريستالينا جورجيفا قد أنهت زيارة للقاهرة مؤخرًا لإجراء مراجعة للسياسات الاقتصادية لصرف شريحة جديدة من أحدث القروض التي تبلغ 9 مليارات دولار.

القرض تتم تجزئته على شرائح، ولا تُصرف شريحة إلا بعد إجراء فحص لمدى التزام مصر بتنفيذ حزمة مطالب اقتصادية ونقدية ومالية للدائن، وهو الصندوق، ليكون القرار: هل تُمنح القاهرة العلامة الصحيحة لصرف الشريحة الجديدة أم لا؟

كيف وصلنا إلى أن يكون صندوق النقد هو القّيِم على السياسات العامة، ووضع الشروط، وتحديد ما يجب اتخاذه من إجراءات في السياسة النقدية والمالية، وسعر صرف الجنيه، وملف الدعم، وأسعار الخدمات العامة من كهرباء وطاقة، وبيع الأصول، وغيرها من مطالب؟

هذا طبيعي في إطار أن من يذهب بقدميه إلى الصندوق للاستدانة لا بد أن يلتزم بتنفيذ سياسات اقتصادية معينة يعتبرها الصندوق أساسية لما يُسمى الإصلاح الاقتصادي.

والنتائج المعروفة هي أن كل بلد يمد يديه للصندوق والمانحين لا يخرج من أزمته، بل تسوء أوضاعه أكثر.

مطالب قاسية

مطالب الصندوق والجهات المانحة قاسية، فهم لا تعنيهم الأوضاع الاجتماعية للشعوب، لديهم قائمة ثابتة من الشروط مثل تحرير سعر الصرف، وتقليص الدعم تدريجيًّا لتصفيره في النهاية، وتحرير الاقتصاد، أي خروج الدولة من أي مشروعات اقتصادية تمتلكها بالكامل، أو كانت شريكة فيها.

ومصر تُسمي ذلك برنامج الطروحات، والمعنى الواقعي هو البيع، بيع حصص الدولة من شركات وبنوك ومشروعات مشتركة مع أطراف أخرى، وبيع ما تمتلكه بالكامل، أو بيع حصص كبيرة منه.

توجه الصندوق وأجندته وخططه وأفكاره وسياساته وعقيدته السياسية والاقتصادية تقوم على مبدأ الاقتصاد الحر، والنهج الرأسمالي دون عاطفة أو رحمة، ولا دورَ اجتماعيًّا له، وكذلك مختلف صناديق وبنوك التمويل، هم واضحون، يستثمرون في المال، وليسوا جمعيات اجتماعية وإغاثية وخيرية.

المنطق عندهم أن هذه أموال، وأنت جئت لتستدين منها، فعليك أن تلتزم بتوجهاتنا في رسم سياسات اقتصادك، أو تغيير سياساتك القائمة بزعم أن في ذلك إنقاذًا للاقتصاد من التدهور، وقدرة على النمو وتسديد ديونك.

والحقيقة أنه لا اقتصاد في أي بلد تم إنقاذه عبر توجيهات الصندوق، ومصر منذ ذهبت إليه في 2016 وحتى اليوم فإنها تعاني طوال 8 سنوات، رغم أنها اقترضت ثلاث مرات منه، كما تقترض من البنك الدولي، ومن مانحين دوليين، ليصل الدين الخارجي إلى نحو 170 مليار دولار قبل أن يتراجع إلى 153 مليار دولار، وهو رقم قياسي في تاريخ مصر المعاصر.

قراران خطيران

ما كان يجب السقوط في بئر الصندوق، مهما كانت مصاعب الأوضاع، حتى لو تم إبطاء خطط التنمية أو تنفيذها بوتيرة هادئة متدرجة، وليس بالطريقة التي تعمل بها وهي إطلاق مشروعات كثيرة في وقت واحد باعتبار أن ذلك يساهم في إيجاد البيئة المناسبة للاستثمار المحلي والخارجي، وبالتالي فإنه مع التشغيل وتحريك الاقتصاد ودفعه للأمام سيتم جني الثمار، ومن هذه الثمار يجري تسديد الديون.

لكن هذا لم يتحقق بالشكل الذي كان متصورًا لحظة اتخاذ اثنين من أخطر القرارات في نوفمبر 2016.

الأول: أول وأكبر تعويم مباشر للجنيه منذ إصداره، وكان ذلك في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فتراجع فورًا أمام الدولار من 8 جنيهات للدولار إلى 13 جنيهًا، ومنذ هذا اليوم المُعتم لم يكسب الجنيه قرشًا واحدًا، بل يواصل الانخفاض ليقترب الدولار من 50 جنيهًا حاليًّا، وفي ظل نفس الأوضاع والسياسات والأفكار والعقليات، فإن مزيدًا من التراجع سيكون ترجمة صادقة للواقع.

الثاني: بدء الاستدانة من الصندوق بقرض 12 مليار دولار، حتى صارت الاستدانة أقرب إلى سياسة شبه ثابتة لحل أزمات نقص النقد الأجنبي، وتمويل مشروعات، دون أن تكون هناك عوائد استثمارية وإنتاجية وتصديرية ومداخيل من مصادر مختلفة كافية لتخفيف الضغوط وتسديد الديون حتى لا يتم اللجوء لاقتراض جديد لتسديد اقتراض قديم.

نتائج تحرير سعر الجنيه ومواصلة الاستدانة قاسية وعنيفة على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، وتتفاقم الأزمات بمواصلة تقليص الدعم على المحروقات والكهرباء والمياه والصرف الصحي وكل الخدمات التي تقدمها الدولة، بجانب الزيادات الكبيرة في الضرائب والرسوم التي يسددها المواطنون مقابل خدمات حكومية، وهو ما لم يحدث مثله من قبل.

هستيريا الأسعار

وكل ذلك ينعكس بشدة على أسعار كافة السلع والمنتجات والخدمات، فهناك هستيريا أسعار، وهناك شكاوى متزايدة من مختلف فئات وشرائح المجتمع، حتى الشرائح العليا ذات الدخول الكبيرة، من المعاناة التي لا أفق لنهايتها.

من قبل كانت الشكوى عالية أكثر ممن هم تحت خط الفقر والفقراء والمحدودي الدخل، واليوم تتصاعد الشكاوى إلى مستويات أعلى، وهو أمر لم يكن متصورًا أن يحدث يومًا، فالدخول مهما ارتفعت لا تتناسب مع تكاليف الحياة المسعورة المؤلمة المُرهقة، حتى أصبح الهم اليومي هو تدبير نفقات المعيشة، ولم يعد الادخار قائمًا، أو تقلص كثيرًا.

منذ نشأة صندوق النقد سنة 1944، اقترضت مصر منه مرتين فقط، الأولى بقيمة 186 مليون دولار خلال عهد السادات، والثانية بـ375 مليون دولار في مرحلة مبارك.

ثم بدأت الاستدانة تتوسع منذ 2016 ليرتفع حجم الدين الخارجي من 43.2 مليار دولار نهاية يونيو/تموز 2013، إلى 152.9 مليار دولار نهاية يونيو هذا العام، وماذا كانت النتيجة غير ضعف الجنيه، والتضخم، والركود، وارتفاعات مزعجة في الأسعار وتكلفة الحياة، والأخطر استحكام الأزمات.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان