لبنان وفيروز.. ما لايمكن نكرانه من أجل فلسطين والعرب

فيروز (رويترز)

كتب زياد الرحباني لفيروز في عيد ميلادها التسعيني :

ـ ” أمي وحبيبتي.. بحبك كتير، بس هالسيارة مش عم تمشي، لأنو ماضل معنا حق البنزين، والقهوة اللي عالمفرق سكرت وصرفت الشغيلة، وقديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس أجت قذيقة وجابت أجلهن”.

أما الأكاديمية المصرية د. دينا الخواجة التي عملت لسنوات بمبادرة الإصلاح العربي والجامعة الأمريكية في بيروت فكتبت بصفحتها بالفيس بوك، وباللهجة المصرية:

ـ ” النهاردة حبيت أجامل الكوافير اللبناني اللي بأروح له، وقلت له شفت كمية البرامج والأفلام الوثائقية في فرنسا بمناسبة عيد ميلاد فيروز، قال لي: بطلنا نسمعها، هي بتساند حزب الله. سكتت وروحت وشعري مبلول”.

مع تسعينية

جارة القمر

من جانبي، بحثت عن تصريح أو كلمة واحدة ” لجارة القمر” تعليقا على ما يجرى في لبنان وله، وبخاصة منذ نحو الشهرين، فلم أجد. وسألت الكاتبة الصحفية ضحى شمس المستشارة الإعلامية السابقة لها، فنفت مؤكدة: “لا أبدا”، مع إشارة إلى إنها تعتبر وبصفة شخصية فيروز طالما كانت مع مقاومة الشعوب للاحتلال، “ومواقفها وأرشيفها يشهد”.

في اعتقادي أن “أرزة لبنان وقيثارة العرب” ظلت فوق الطوائف والاستقطابات والزعامات في بلدها، وحتى خلال الحرب الأهلية 75 ـ 1990. وطالما غنت كثيرا لفلسطين ولمقاومتها “وبالرشاش”، ولاجئيها وعودتهم، والقدس “زهرة المدائن”، كما لبنان “الحقيقي الجاي” و”الكرامة والشعب العنيد”، وبردى”ونسائمه، “وشام “السيف لم يغب”، ومصر “شمسها الذهب”، والأردن “أرض العزم”، ومكة ” أهلها الصيدا”، وتونس ” وردة البلدان”.. وهكذا. ولم تقترف الغناء لحاكم أو سلطة.

وأظنها في سمتها “جارة للقمر” رمزا وطنيا وإنسانيا محلقا في الأعالي، لا يتصور أن تقول كلمة تصب في طاحونة النار والدم وأطماع التوسع الصهيونية تاريخيا ومستقبلا. ولا أعتقد على البعد، تخيلا ليس إلا، أنها تستريح قرب كنيستها المسيحية المارونية في جبل لبنان إلى أصوات طائرات الموت والخراب الإسرائيلية، تحلق فوق”رابيته” البلدة التي تسكنها.

لا أشك في لوعتها وغضبها لاستهداف العدوان الإسرائيلي بالقصف والدمار قلعة بعلبك الأثرية، وفندق “بالميرا” التاريخي المقابل لها، حيث كانت تقيم إحياء لمهرجان المدينة. وكذا لقصف حي “زقاق البلاط” بوسط بيروت أين ولدت وعاشت طفولتها وصباها.

ذكرى الاستقلال

والتبشير بحرب أهلية أخرى

يصادف مولد فيروز قبل يوم واحد من عيد استقلال لبنان 22 نوفمبر تشرين الثاني، وبلوغها التسعين، ذكراه الواحدة والثمانين. ويلفت النظر هذه المرة أمران:

.. الأول نغمة التبشير بحرب أهلية ثالثة بعد الاستقلال، تلي توقف الحرب الجارية بين حزب الله وإسرائيل، وفي إشارة لأحداث 1958 وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

هذا التبشير أو التحذير يظهر بالصحافة الإسرائيلية، كما مقال “شيرين فلاح صعب” في “هآرتس” 19 نوفمبر الجاري بعنوان: “هل نحن على شفا حرب أهلية ثالثة بلبنان؟”.

ولا أعرف هل بالغ المقال في الحديث عن توتر شديد بين نحو 1,5 مليون نازح معظمهم من الشيعة وبقية سكان لبنان؟ لكنه يقينا اعترف بضغط آلة الحرب الإسرائيلية، وبخبث متحرر من أي حسابات أو أخلاق، على المدنيين اللبنانيين كافة وفي مختلف المناطق على تنوع جغرافيتها اجتماعيا وطائفيا، واستهداف 103 مراكز طبية و31 منشأة صحية أخرى و56 عربة إسعاف، وقتل 142 من رجال الإسعاف والخدمات الطبية ضمن ما يقارب الأربعة آلاف شهيد و15 ألف جريح.

وفي “يديعوت أحرونوت” تقرير بعنوان ” هل تحول الشعب اللبناني ضد حزب الله؟” يوم 21 نوفمبر، يقول بأن “اللبنانيين أدركوا كون أسلحة حزب الله لم تحم لبنان، لكنها كانت لحساب إيران”.

تضغط القوة الإسرائيلية الغاشمة في اتجاه حرب أهلية أو توهم بقربها، كي ترضخ المقاومة والدولة في لبنان لشروط حكومة نتنياهو لوقف إطلاق النار، والتي تذهب بعيدا في امتهان السيادة والكرامة.

ولذا تستهدف بالقصف والتدمير والقتل الجماعي السكان المدنيين في بلدات وأحياء غير شيعية تستضيف النازحين، مثل “أيطو” بقضاء زغرتا بشمال لبنان، و” البسطة” و”زقاق البلاط” بقلب بيروت وغير بعيد عن “الحمرا”.

واللافت أن ببعض الصحافة اللبنانية، وبخاصة المعارضة لحزب الله والمقاومة، وبخشونة “كنداء الوطن” وبدبلوماسية “كالنهار”، كلام عن حرب أهلية جديدة، وأن اللحظة ستكون مواتية بعد سكوت المدافع لإخراج الحزب من معادلة الدولة والحكم.

وقف إطلاق نار

في الضباب

أما الأمر الثاني، فهو هذه الضبابية بشأن إنجاز اتفاق وقف إطلاق النار ونتائج وساطة المبعوث الأمريكي “هوكشتاين”، الذي خدم سابقا بالجيش الإسرائيلي.  فما إن يغادر المنطقة مطلقا الآمال بقرب الاتفاق إلا وتكثف آلة العدوان الإسرائيلية هجماتها، وعلى المدنيين. وما أن يلوح الاتفاق في الأفق إلا ويبتعد، وكأن حكومة اليمين الإسرائيلي تفضل انتظار دخول ترامب البيت الأبيض 20 يناير كانون الثاني 2025.

وكما غيرها من الحروب مع جيوش الاستعمار هناك مزيج من انفلات همجية المستعمر وصمود أسطوري لمقاومته وشعبها، مع مرحلة “عض أصابع”: من يصرخ أولا؟

واقعيا يتراجع المستعمر الإسرائيلي هنا والآن عن أهدافه المعلنة رسميا قبل أسابيع معدودة: إزالة حزب الله، وبعدما أخفق في وعده “إعادة المستوطنين إلى الشمال” خلال أيام. وأصبح يكتفى بدفع سلاح المقاومة إلى خلف نهر الليطاني.

شطب حزب الله تماما من معادلة الدولة في لبنان يبدو هدفا خياليا، ولاعتبارات داخلية آنية، وغائرة في دروس الحرب الأهلية. وهو ما يدركه حتى خصوم الحزب بين القوى والزعامات السياسية الوازنة. فقط ربما يصيبه بعض ضعف، ويخف وزنا عند توازنات السلطة، وهناك إشارات كإخراج مرفأي بيروت وطرابلس ومطار بيروت من دائرة نفوذه.

واقعيا أيضا، تراجع حزب الله، وأصبح يقبل بفك الارتباط مع وقف حرب الإبادة على غزة. وهو في ذلك يراعي بدوره حسابات الداخل اللبناني، وما أصابه والبلد منذ سبتمبر أيلول الماضي، مع أنه أظهر قدرة استثنائية على تجاوز الضربات الخطيرة، وتفعيل إمكاناته الصاروخية البعيدة المدى، وبسالة مقاتليه على أرض الجنوب، فعجز العدو لليوم عن تقدم واحتلال مؤثر.

تضحيات بلا عد أو من

لا يصح لدولة بالمنطقة ولإعلامها الموجه أن تزايد على لبنان ومقاومته عندما يقبلا بوقف إطلاق نار، قد يمثل تراجعا. فلبنان قدم ومازال منذ بداية الغزو الصهيوني للمنطقة ثم نكبة 48 الكثير للقضية الفلسطينية وللعرب.

عانى ما يزيد على ثمانية حروب وعدوان  واحتلال عاصمته، مع مجازر إسرائيلية بلا حصر، لم يكن أولها “حولا” 1948، ولا آخرها “قانا” 1996 و2006. وهو لا يعد ضحاياه وخسائره، أو يدعيها ويبالغ، ليمن بها كما فعل آخرون.

وتحمل ومازال نصيبا معتبرا من اللاجئين الفلسطينيين مقارنة بمحدودية سكانه، بدأ بنحو المائة ألف، وبلغ ما يقدر بالنصف مليون.

لبنان مازال يفتح ذراعيه للمبدعين والمثقفين من أنحاء العالم العربي، ليتنفسوا بعض حرية، وليقدموا انتاجهم للعالم من خلال مطابع كتبه، ومختلف منصاته الثقافية والإبداعية، وفي أحلك ظروفه، ولو حربا أهلية. علاوة على عطاء أجيال اللبنانيين المقدرة للثقافة العربية والإنسانية، قبل فيروز وبعدها.

لبنان يستحق تضامنا وعونا أكبر من أشقائه العرب، يتجاوز حسابات صراعات الإقليم، وما يعتقد عن مدى امتداداتها لداخله.

يستحق لبنان وفيروز منا جميعا الامتنان والعرفان والوفاء.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان