فيروز.. رمز الوحدة النادر!

فيروز (رويترز)

بقليل من الكلام والابتسام وبكثير من الغناء والمعاناة الشخصية وتَشارك الهم العام، وعبر تسعة عقود اكتملت قبل أيام جسدت “نهاد وديع حداد” التي اشتهرت باسم “فيروز” حلم الوحدة في وطنها لبنان، الذي مزقته الحرب الأهلية وصراعات الجماعات السياسية والدينية، وخلفت دولة يُضرب بها المثل في الطائفية البغيضة التي لا تبني بلدًا ولا تُعمر أرضًا ولا ترفع راية أو رأسا.

من مدينة “ماردين” الواقعة جنوب شرق تركيا، والتي كانت تحتضن السريان والأشوريين والأرمن والأكراد، نزح العربي المسيحي” وديع حداد” فرارا من المذابح وسياسة قمع الأقليات، والتتريك التي اتبعها نظام “مصطفى أتاتورك” في الربع الثاني من القرن العشرين.

لولا هذا الاضطهاد وما تبعه من نزوح لما أهدت السماء لنا “سفيرة النجوم” إذ اتجه حداد للبنان والتقى الفتاة المارونية ليزا البستاني وتزوجها، لتكون الثمرة الأولى “نهاد” التي عرفت في الآفاق باسم فيروز.

تنوع من المهد

ولدت الابنة الكبرى “نهاد حداد” في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1934 في “قضاء الشوف” الذي يتميز بتنوع تركيبته السكانية فهو معقل تاريخي لطائفة الدروز الذين يشكلون نسبة كبيرة من قاطنيه، كما يوجد به نسبة معتبرة من المسيحيين الموارنة والروم الأرثوذكس، ولا يخلو القضاء الواقع في محافظة “جبل لبنان” من المسلمين السنة، وقبل هذا فهو مقصد سياحي للأجانب بطبيعته الساحرة ومناظره الرائعة من البحر إلى الجبل.

تربت الطفلة “فيروز” ونشأت في “زقاق البلاط” الذي انتقل إليه والدها، العامل في مطبعة صحفية، وكان الحي القديم القريب من وسط العاصمة بيروت يضم أسرًا من الطبقة الأرستقراطية، والنبلاء، كما سكنته نخبة التجار والعلميين والبعثات الأجنبية، ما جعله مثالًا للتنوع الديني، وهو حي لا يمكن أن تنحيه لصالح طائفة، فقد تميز بالحراك السكاني المستمر، ويستقبل ويطرد، لكن البعد القومي كان لافتا لساكنيه كونه يقع في بيروت الغربية.

نجاة البيت

شبت الفتاة التي اشتهرت بميلها للصمت والتأمل في بيت قديم حيث يشتهر “زقاق البلاط” بالأبنية التراثية التي تعود إلى فترة الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، والانتداب الفرنسي (1943:1920) لكن دعوات المحافظة على الإرث المعماري في بيروت نادرًا ما تجد آذانًا صاغية بسبب الفساد والمناورات والحيل غير القانونية، إلا أن البيت الذي نشأت فيه قيثارة الشرق فيروز نجا من مصير الهدم والاستبدال بالأبراج العالية، وذلك بعد أن تطوعت مؤسسات المجتمع المدني، بوقف هدمه وبفض النزاع حول ملكيته، لإنشاء متحف يضم مقتنيات الصوت الملائكي.

هموم شخصية

نشأت صاحبة الصوت الراقي في أسرة بسيطة، وفي ظروف حياتية صعبة “كان منزلنا يتألف من غرفة واحدة، وكنا نتشارك مع الجيران في مطبخ مشترك”، لابد أن هذا أكسبها جنوحًا للتعاون والعيش المشترك، وكذلك الإحساس بالمعاناة.

كان الخجل أحد سماتها الشخصية، وكذلك الجدية التي حرصت على رسمها كصورة ذهنية تعبيرا عن همٍ مقيمٍ لا تستطيع أن توزع بسببه الابتسامات أو الضحكات الخليعة حتى لو كان بداعي الفن والموقف الدرامي.

في عام 1954 تزوجت فيروز من عاصي الرحباني الذي صنع مع شقيقه منصور انطلاقتها لعالم الشهرة وشاركاها نجاحها وتألقها، ورزقت بابنها الأكبر زياد عام 1956 والذي سيصبح لاحقًا أهم شريك فني لها بعد انتهاء حقبة عاصي ومنصور، بخلاف وصراع وملاحقات قضائية، على حقوق الملكية للأغاني المشتركة ثم تبع ذلك انفصال في الزواج والفن، لتكابد أنجح من غنت للحب من لوعة الفراق والهجر.

أنجبت فيروز ابنها “هالي” الذي ولد عام 1958 وتسبب مرض أصيب به وهو رضيع في إعاقة لازمته، فكان أحد همومها الشخصية الممتدة حيث التزمت كأم برعايته حتى وهو في شيخوخته (66 عاما) بينما تبلغ هي أرذل العمر.

في عام 1988، وبعد عامين من رحيل زوجها “عاصي” فقدت فيروز ابنتها “ليال” بسكتة دماغية وهي شابة بعمر 28 عامًا، مما فاقم أحزانها التي جعلتها تتجنب الصحافة وأن تعين ابنتها ريما الكاتبة والمخرجة متحدثة رسمية باسمها.

دويلات من مطار واحد

حين تستقل سيارة من مطار بيروت قاصدًا أحد فنادق المدينة، فربما تعرف هوية السائق من الأغاني التي يديرها في سيارته، لكنك ستجد صعوبة في تحديد ذلك إذا أسمعك فيروز، ولم يتحدث إليك.

في الطريق ستمر حتمًا بالضاحية الجنوبية وهو حي أغلبية سكانه من الطائفة الشيعية، بعض تفاصيله تشعرك أنك تتحرك في جمهورية إيران التي يحكمها رجال الدين المعروفين بـ”الملالي” أما إذا اتجهت نحو منطقة الأشرفية في بيروت الشرقية حيث يغلب المكون المسيحي فقد تشعر أنك انتقلت لأوروبا وستلحظ الفرق في أسماء المحال والمؤسسات دونما حاجة لثرثرة السائق أو شرحه، وإذا دلفت إلى الشطر الغربي من بيروت فستكتشف بسهولة أنك في معقل اليسار والتيار القومي والطائفة السنية ومقر طائفة “الموحدين الدروز”.

حين تزور لبنان تشعر أنك طُوِفْتَ بعدة دول أو دويلات في سفرة واحدة كونها ممزقة بين نفوذ أوروبي تمثله فرنسا التي كانت سلطة احتلال أو انتداب بين عامي (1943:1920)، ونفوذ قومي عربي تمثله سوريا التي كان لها وجود عسكري منذ عام 1976 قبل أن تسحب قواتها نهائيا عام 2005، وبين نفوذ شيعي تمثله إيران التي تدعم بالمال والسلاح “حزب الله” وميليشياته العسكرية وأنشطته المقاومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي.

من يجمعهم؟

لبنان كله مثال لذلك التقسيم الحاصل في العاصمة بيروت، فالشيعة يتركزون في الجنوب، كما يكثر وجود السنة في منطقة البقاع المتاخمة للحدود اللبنانية الشرقية مع  سوريا، وبينما يتركز الدروز في المناطق الجبلية فإن التجمعات المسيحية الأكبر تجدها في الشمال، وجبل لبنان.

وإذا بحثت عما يجمع كل هؤلاء اللبنانيين فربما لن تجد غير الطائفية وأغاني وقصائد “فيروز” الملقبة بـ”صوت الجبل”، بينما ستطل عليك عشرات إن لم يكن مئات الموضوعات التي هي محل للجدل والخلاف والاستقطاب الذي أوصل اللبنانيين للاقتتال والحرب الأهلية في سنة 1975 التي استمرت 15 عامًا.

مسار فيروز المختلف

بينما كان التنوع الذي تمثله الطوائف اللبنانية سببًا رئيسًا في صراعات لا تنتهي، فإن تتبع مسار تجربة “فيروز” الفنية والإنسانية يشي بوضوح أنها اتخذت طريق البحث عن المشتركات، التي تؤدي للوحدة فخاطبت وطنها كله “بحبك يا لبنان، بشمالك، بجنوبك”.

على امتداد سنوات غنائها التي جاوزت السبعين ونيف، قليلًا ما تحدثت فيروز إلى الصحافة، ورغم ندرة مقابلاتها الإعلامية، فإن “فيروز” لم تُضبط مُتلبسة بأي إشارة أو تلميحة تشي بانحياز طائفي ولم تشارك في أي سياق خلافي أصبح أمرًا معتادًا وسيارًا في لبنان وكان تساميها عن الولوج إلى أتون الصراع والتحزب رافعَا لمكانتها التي احتفظت بها فوق الساسة والفرقاء الذين يتبدلون على مقاعد الحكم.

وعندما صرح ابنها زياد قبل سنوات بأنها تحب السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله وقائد المقاومة، نأت عبر ابنتها ريما عن ما اعتبرته “اجتهادات زيادية” لكنها لم تتورط في النفي أو التأكيد مفضلة أن تكون صوتًا لكل اللبنانيين.

لم تجد فيروز غضاضة، وهي المسيحية في أن تغني لنبي الإسلام “حنينا إلى أحمدَ المُصطفى وشَوقا يهيج الضُلوع استعارا”، وهي قصيدة للشاعر “ابن جبير الأندلسي”، كما تنوع ما قدمته بين الأغاني الطربية والخفيفة والإيقاعية والموشحات الأندلسية والمواويل والقصائد وغنت للحب والسلام، وداعبت حنين المتلقي للرفيق وللوطن، وللذكريات، وكانت صوتها محلقًا في السماء ينشر النشوة بجناحي طائر فينيقي جميل، وفي كل ذلك توارت أنوثتها خلف إنسانيتها.

فيروز وفلسطين

كانت فيروز في الرابعة عشر من عمرها حين نشأ الكيان الصهيوني وعاصرت اندلاع حرب عام 1948 بين الجيوش العربية، والعصابات الصهيونية، وشهدت في صباها نكبة تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين قسرًا إلى الأردن وسوريا ولبنان، ليعيشوا لاجئين في مخيمات أصبحت بسبب استمرار الصراع هي أوطانهم الصغيرة الدائمة بكل ما فيها من تكدس وضيق وكآبة وافتقاد لمقومات الحياة الإنسانية، فغنت بشجن يليق بالمأساة “لأجل من تشرّدوا.. لأجل أطفال بلا منازل.. لأجل من دافع واستشهد في المداخل” وأقرت نبراتها بحزم “واستشهد السلام في وطن السلام”.

لا جدال أن فيروز هي الصوت الأكثر تعبيرًا عن حالة الشجن التي تستدعيها مدينة القدس المحتلة في وجدان العرب والمسلمين، فقد كانت هي الصوت الذي مر في “شوارع القدس العتيقة”، وكانت هي الحنجرة التي تلكأت في حسرة أمام “الدكاكين التي بقيت من فلسطين” لتستعيد في “زهرة المدائن” ذكرى جراح اقتلاع وطن وغرس كيان عنصري غاصب بدلًا منه.

لم يستطع لبنان الاحتفال بعيد ميلاد “سيدة الأرز”، فقبل أيام قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي “زقاق البلاط”، الحي الذي تربت فيه فيروز، ضمن حملة احتلال همجية من الكيان الصهيوني ضد كل لبنان.

مازالت الطوائف تحكم لبنان تحت القصف والدمار ليكون خير تعبير عن حال البلد الممزق ما كتبه الشاعر “جبران خليل جبران” وغنته فيروز محذرة “الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقل فيها الدين.. والويل لأمة مقسمة وكل ينادي أنا أمة”.

جسدت حياة فيروز مأساة الطائفية في لبنان وظلت المرأة الخجولة عالية الصوت في تزكية إشارات الوحدة، لتظل رمزها النادر في زمن التحزب والتعصب.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان