في مصر: تشكيلات إعلامية جديدة

مبنى (ماسبيرو) الإذاعة والتلفزيون المصري (منصات التواصل)

قد يتساءل البعض عما يجعلنا جميعا في انتظار ما يحدث في مصر (المحروسة) من قرارات أو خطوات كما يقول المثل المصري (على أحر من الجمر)! ما السر وراء أن تظل مصر هي المقصد والمبتغى لكل منا؟ فنتابع كل حدث صغيرا كان أم كبيرا بلهفة وشغف؟
لعل الإجابة تأتي من أربعة مشاهد تتشابه ثلاثة منها في المعنى، والآخر يقترب في المفهوم العام لقيمة هذه الجغرافيا وتاريحها الكبير والأمل المعقود عليها فيما يخص أمة كاملة.

المشهد الأول: يأتي من غزة بينما يعاني طفل من أطفالها الجوع والعطش وتحاول أمه معه أن ينام لعله ينسى الآلام التي لا يحتملها بشر، فما بالكم بطفل صغير يسأل أمه، وهو يغفو: هي مصر تعرف ما نعاني منه يا أمي؟ تحتار الأم في الإجابة فتقول له: لا، فيجيبها الطفل: أكيد مصر مش ها ترضى اللي بيحصل لنا لما تعرف!

طفل آخر من أطفال غزة تحت الردم، إثر انهيار منزله في قصف صهيوني، وبينما يحاول والده أن يخفف عنه ما فيه حتى يتم إنقاذه، فيطلب من الطفل أن يغني ليخفف عنه الموقف، فإذا بطفل غزة وفلسطين يغني ببراءة وفي حلم جميل: مصر يامه يا بهية.. يا أم طرحة وجلابية (أغنية الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والملحن الكبير الشيخ إمام عيسى)، هل عرفنا أين تقع مصر في قلوب أهلنا بغزة؟ ولماذا نرى في كل حركة أمل كبير في الآتي؟

مشهد درامي في الجزء الثاني من المسلسل التركي (صلاح الدين فاتح القدس): السلطان نور الدين زنكي سلطان الشام يرسل صلاح الدين الأيوبي إلى مصر مع عمه شيركوه لإخماد الفتنة فيها أواخر العصر الفاطمي وإعادة الوزير شاور إلى الحكم، ويخطط لتوحيد مصر مع دولته في الطريق لتحرير القدس، فيقول زنكي في مجلس حكمه: لا تحرير للقدس من الصليبين بدون مصر، فمصر هي المفتاح لبيت المقدس ولبناء الأمة الواحدة، هكذا تأتي القيمة على لسان أحد الأبطال في عمل كتبه مؤلف عمل يدرك المكانة والجغرافيا والتاريخ.

المشهد الأخير حدث في إسطنبول بينما أتجول استوقفني رجل عراقي في بداية الستينيات من عمره متسائلا: أنت من مصر؟ وتعارفنا وبينما نتجول في الأحوال العربية وغيرها قال لي: نحن تربينا على الدراما التليفزيونية المصرية في السبعينيات والثمانينيات، وأخذ يشرح لي القيم التي رسختها الدراما التليفزيونية المصرية في عهدها الذهبي علي يد مؤلفين، ومخرجين، وممثلين مصريين كبار.

للصدفة أن يكون حديثي الطويل عن الدراما المصرية مع الرجل الذي أصبح (معرفة)، قبل ثلاثة أيام من حدوث تغييرات في المجالس الإعلامية الثلاثة في مصر (المجلس الإعلى للإعلام)، و(الهيئة الوطنية للصحافة)، و(الهيئة الوطنية للإعلام)، التي صدرت بقرار جمهوري، وقد كنت أحد الأعضاء الذين شاركوا في محاولة صياغة قوانين الهيئات الثلاث، لكن ما صغناه في الأوراق اختلف كثيرا عما صار بعد ذلك.

أحلام مشروعة ولكن

تلقف المصريون، وربما بعض العرب، أخبار التغيير الذي تم ببعض الآمال قبل الإعلان عنها. وحمل الكثير من المصريين، خاصة العاملين في الهيئة الوطنية للإعلام، التغيير أحلامهم. فهذه الهيئة التي أصبحت بديلا لاتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري أكثر من عانت في الهيئات الثلاثة، فقد أصبح مجرد المرور من أمام مبني ماسبيرو يثير الحزن في قلوب المصريين، انطفأت أنوار المبنى، وتهدمت ملحقاته وبيعت للمستثمرين، وخبا نور استوديوهاته التي حملت مشعل الفكر والثقافة سنوات طويلة عبر إنتاجها من الدراما، والبرامج، والأغاني، وتم إنتاجه طوال السنوات الخمسين الأولى من عمره، تلك التي عبر عنها الرجل العراقي في إسطنبول.

أبناء الهيئة الوطنية للإعلام (ماسبيرو) كانوا أكثر بهجة من غيرهم فالكثير منهم يحلم بعودة المبنى للإنتاج، ومساواة أبنائه في مختلف القطاعات ماديا، وحصول أصحاب المعاشات منهم على حقوقهم المتأخرة منذ خمس سنوات، والاهتمام بالإنتاج التليفزيوني، وأيضا بالرعاية الصحية وكل ما أُهمل في العقد الماضي، هي أحلام مشروعة.

تتوافق مشروعيتها مع أحلام العاملين في الهيئة الوطنية للصحافة المتخصة بالصحف القومية والإصدرات الصحفية الحكومية، يضاف إلى ذلك كله أحلام المصريين وبعض العرب باستعادة الحرية لكل إصدارات الهيئتين من قنوات وصحف. أحلام كبيرة يعلقها العاملون والجمهور أيضا على من جاء بهم التغيير، لعل في التعبير بحرية عن قضايا مصر والأمة ما يحقق أحلام أطفال غزة، ومؤلف فاتح القدس، والصديق العراقي في إعلام يحقق مطالب وأحلام الأمة وهو ما بنيت عليه قنوات وصحف مصر في ستينيات القرن الماضي.

ملاحظات على التشكيل

كل تلك الأحلام مشروعة في إطار وجود أسماء جديدة بالهيئات الثلاث. وجاءت التشكيلات للهيئات الثلاث مبشرة للبعض، وصادمة لآخرين، إذ ظهر اسم وزير الشباب والرياضة الأسبق خالد عبد العزيز رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام، وهو بعيد تماما عن الإعلام بكل توجهاته، (وظهرت جملة “إيه اللي جاب القلعة جنب البحر” الشهيرة لنجم الكوميديا محمد سعد الشهير باللمبي تعبيرا عن الغرابة في الترشيح).

جاء تعيين الكاتب الصحفي أحمد المسلماني كرئيس للهيئة الوطنية للإعلام، وهو أيضا بعيد عن الهيئة وأحوالها ومشاكلها. وقد ترددت نفس الجملة، فالمسلماني صحفي لم يقترب من العمل التليفزيوني الحكومي أبدا، وكل تاريخه في العمل التليفزيوني هو العمل مقدم برامج أنتجها القطاع الخاص. ولبرنامجه الأول حكاية غريبة! ولكنه جاء إلى ماسبيرو وكان الأجدى أن يكون أحد أبنائه. فتجارب الغرباء في ماسبيرو ليست كما نحلم ويحلم الكثيرون، وإن كان يلزم لذلك الشفافية والمعايير اللازمة للاختيار لأن التجربة الأخيرة لأبناء ماسبيرو منذ ثماني سنوات ليست بالجيدة.

الهيئة الوطنية للصحافة ظلت برئاسة ممتدة لعبد الصادق الشوربجي منذ أربع سنوات، ولا تعاني الهيئة كثيرا من مشاكل مادية للعاملين فيما يخص المعاشات، لكن هناك معاناة لأعضائها من الصحفيين والعاملين فيها والذين لا يعملون في إعلانات تلك الصحف. لكن معاناة الهيئة الحقيقية في إصدراتها الصحفية التي تنخفض أسهمها يوما بعد يوما، وتعاني من تراجع الحرية والاستقلالية الصحفية، فهل يتغير الحال مع الجديد القديم، وتنهض الصحف القومية في ظل منافسة شرسة للمواقع الإلكترونية؟

تشكيل الهيئات من الأعضاء ربما كان أفضلها: المجلس الأعلى للإعلام إذ يوجد فيه أربع شخصيات إعلامية ذات سمعة جيدة هم: الكاتب الصحفي عادل حمودة، وأستاذة الإعلام منى الحديدي، والرئيس الأسبق للهيئة الوطنية للإعلام عصام الأمير، والصحفية علا الشافعي، ورئيس مجلس إدارة الأهرام السابق عبد المحسن سلامة. ورغم أن الغالبية فوق الستين في عالم يجري بالشباب لكن خبرات معقولة وجيدة، فهل تكون صاحبة قرار وتغيير لحال الإعلام؟

الهيئة الوطنية للصحافة ربما تكون أفضل حالا من الهيئة الوطنية للإعلام التي جاء أسماء أعضائها مجهولين، وأحدهم كان في الهيئة السابقة ولا يحمل أي مؤهلات تجعله يستمر، أما هالة حشيش فقدت تعدت السبعين، وأسامة كمال فقد جُرب كثيرا! أما الهيئة الوطنية للصحافة فقد ضمت ثلاثة أسماء لهم علاقة بالصحافة هم: علاء ثابت، وعمرو الخياط، وسحر الجعارة، وبالنظر إلى التشكيلات الثلاثة فلن نجد أحد خارج الصندوق القديم، وتختفي بينهم الشخصيات التي قد تؤثر في حالة الإعلام المصرية العامة مما يجعل أحلامنا تتضاءل أمام واقع قد لا يفرز شيئا جديدا، ولكن أحلام العامة تتعلق بأي تغيير، ولعله قادم.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان