«ميركل» … ودروس في الحكم الرشيد

كل من ميركل وبوتين عاشا في ألمانيا الشرقية اثناء حقبة الاتحاد السوفيتي
صورة إرشيفية تجمع بين الرئيس الروسي وميركل (رويترز)

(1) أقوى امرأة في العالم تعود إلي دائرة الضوء

المستشارة الألمانية السابقة انغيلا ميركل، عاد اسمها يتصدر عناوين الأخبار بمناسبة نشر مذكراتها المعنونة “الحرية: ذكريات 2021-1954”.

كانت ميركل أول امرأة تتولى منصب المستشار في ألمانيا، وقادت بلادها لفترة امتدت إلى 16 عاما بين عامي 2005 و20021 لتصبح ألمانيا في عهدها أقوي اقتصاد في أوروبا، وتم اختيارها 10 مرات كأقوى امرأة علي كوكب الأرض. نشرت مذكراتها في كتاب من 700 صفحة تقريبا، يحمل تجربة إنسانية ثرية لشخصية فريدة من نوعها منذ لحظة ميلادها وترعرعها في ألمانيا الشرقية وحتى تركها لمنصب المستشارية في ألمانيا الموحدة.

نُشرت مقتطفات من المذكرات في إحدى الصحف الألمانية بهدف الترويج لها وتم اختيار ما يتعلق برأي ميركل في أكثر شخصيتين إثارة للجدل على المستوي العالمي وهما: ترامب وبوتين لجذب القراء، وأيضا رأيها السابق عن أوكرانيا، حيث تلقي الحرب الأوكرانية بظلالها على الوضع الاقتصادي المتأزم في أوروبا، كما كلفت ألمانيا على وجه التحديد خسائر فادحة وأدت إلى توقف صناعات ألمانية كانت تقوم على امدادات الغاز الروسي الرخيص.

دافعت ميركل في مذكراتها عن موقفها إزاء أوكرانيا في قمة الناتو التي انعقدت في بوخارست عام 2008، والتي ناقشت طلب أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الحلف، وهو ما رفضته ميركل واعتبرت أنه من الوهم الاعتقاد بأن وضع اوكرانيا كمرشحة لحلف شمال الأطلسي يمكن أن يثني بوتين عن العدوان المحتمَل، وشاركها الرئيس الفرنسي ساركوزي هذا الموقف، الذي تناقض مع الخط الأمريكي المدعوم من الرئيس جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس. واعتقد أن ميركل كانت واعية بما عبر عنه المفكر الفرنسي “إيمانويل تود” بأن التحالف بين روسيا وأوروبا يصب في صالح أوروبا وليس أمريكا، لذا تسعي أمريكا دوما لمنع هذا التحالف وتأجيج الخصومة والمخاوف بينهما.

في مذكراتها تنتقد ميركل القرار الذي اتُّخذ في القمة وهو الوعد بعضوية أوكرانيا وجورجيا في المستقبل، واعتبرته استفزازا لبوتين ويزيد التوتر بين موسكو والغرب. كان بوتين يثق في ميركل وقدرتها على القيام بدور رجل الإطفاء في الناتو، لكنه لم يكن يثق في باقي زعماء الحلف، لذا نقلت عنه قوله: “لن تكوني دائما مستشارة، وسينضمون إلى الناتو وأريد منع ذلك”، قاصدا أوكرانيا.

كانت علاقة ميركل ببوتين تتسم بالثقة والصراحة في آن واحد، وهي الزعيمة الأوروبية الوحيدة التي شاركت روسيا احتفالها بعيد النصر رقم 70 في مايو عام 2015 بعد ضم بوتين للقرم، لكن ذلك لم يمنعها من انتقاد بوتين في عقر داره، ولقد رد عليها بوتين حينها متهما الغرب بازدواجية المعايير، حين أيد عودة الرئيس الشرعي لليمن بعد انقلاب الحوثيين، في حين وقف مع الانقلاب على الشرعية في أوكرانيا ضد رئيسها فيكتور يانوكوفيتش، والأخير كان مواليا لموسكو.

(2) ترامب مطور عقاري وبوتين يبحث عن التقدير

وصفت ميركل بوتين في مذكراتها قائلة: أنه رجل يريد بشدة أن يؤخذ على محمل الجد، لا يريد أن يحتقر أو ينتقص الغرب من قدر بلاده، فروسيا لم تختف من الخريطة ويريد أن تعامل كقوة عظمي وبسبب ذلك قد يبدو بوتين عدائيا ومستعدا دوما للهجوم.

أما في حديثها عن ترامب، فلقد وجدت صعوبة في التعامل معه فهو شخصية لا تقبل الاختلاف، ولقد جدته محاوِرًا غير راغب في الاستماع ولا يبدو أن حل المشاكل كان هدفه، بل ظل بفكر المطور العقاري الذي كانه قبل دخول عالم السياسة، وظل بعد انتخابه رئيسا لأمريكا يتعامل مع خريطة العالم على اعتبار أنها قطعة أرض معروضة للبيع، ولا يمكن بيع أي قطعة أرض إلا مرة واحدة، وإذا لم يحصل عليها فإن شخصا آخر سيحصل عليها!!.

العلاقات الدولية بالنسبة لترامب صفقة تجارية، فيها طرف يكسب وآخر يخسر وترامب لا يقبل الخسارة. وبسبب هذا الموقف الذى وجدت نفسها فيه أثناء تعاملها مع ترامب الراغب في الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، طلبت النصيحة من رجل وجدت فيه الحكمة والبصيرة والكتمان وهو بابا الفاتيكان فرانشيسكو، حيث كانت تأمل أن تجد لديه وسيلة لإقناع ترامب بعدم الانسحاب، ورد البابا عليها قائلا: شددى..شددى ..شددى ولا تقطعي”.

عبارة تذكرنا بالعبارة التي قالها معاوية بن أبي سفيان لأعرابي سأله: كيف حكمت الشام 40 سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي؟ فأجاب: “إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها. حاولت ميركل أن تستفيد من نصيحة البابا، وكانت أكثر الزعماء الغربيين هدوءا وحزما مع ترامب ال”مفتون” بالقادة ذوي الميول السلطوية علي حد قولها.. ورأيها في ترامب اليوم لا يختلف عن رأي الأمس .

(3) الانسحاب في الوقت المناسب …قرار الحاكم الرشيد

مع نهاية عام 2018 أعلنت ميركل عدم رغبتها في الترشح لرئاسة حزبها المسيحي الديمقراطي في انتخابات ديسمبر من نفس العام كما أعلنت أنها ترغب في التخلي عن منصبها بعد انتهاء ولايتها في 2021.

أدركت ميركل بحسها السياسي أن عواصف التغيير آتية ولن تكون محصنة ضدها رغم إنجازاتها الضخمة، أصوات اليمين الشعبوي المعارض لقرارها بالسماح لمليون لاجئ بدخول ألمانيا بدأت تجد صدي لدي الألمان مما أفقد حزبها أصوات ملايين الناخبين وكلفه خسارة فادحة في الانتخابات المحلية.

أدركت ” بلقيس الغرب” أن وقت الاعتزال حان، لم تحاول ان تستجدى عواطف الألمان بسرد إنجازاتها وتضخيمها كما يفعل قادة في الشرق والغرب، وكان يكفيها ذكر كيف خفضت عجز الموازنة من 94 مليار دولار إلى 9 مليار خلال عامين من 2005 إلى 2007، وجعلت ألمانيا الاقتصاد الأقوى في الاتحاد الأوروبي ورمانة الميزان في الاتحاد الأوروبي ولاعبا دوليا لا غني عنه.

ميركل مثال للحاكم الرشيد الذي يعرف حدود واجباته وحقوقه ويقوم علي أكمل وجه بمسؤولياته تجاه شعبه وبلده دون انتظار شكر أو تمجيد.

خسر الناتو والاتحاد الأوروبي والعالم بأسره زعيمة كانت وحدها تستطيع تهدئة مخاوف بوتين وردع أطماع بايدن.

 

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان