جمعية الموظفين جائزة شرعا أم من أمهات الربا؟!

لماذا حرمها الددو؟!

رئيس مركز تكوين العلماء العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو (الجزيرة)

لم يكن من شاغل يشغل الناس من أهل التدين، أو من المتابعين للخطاب الديني الفقهي، سوى فتوى للشيخ محمد الحسن ولد الددو، العالم الموريتاني المعروف، صدرت له منذ عدة سنوات، لكنها عادت للانتشار مرة أخرى هذه الأيام، وهي تقضي بحرمة عمل الجمعيات، كما تشتهر في مصر.

وللجمعية عدة أسماء على حسب الدول والأعراف فيها، فتشتهر في مصر وغيرها بالجمعية، أو جمعية الموظفين، وهي ليست خاصة بالموظفين، ولكن غلب على من يقومون بها أنهم موظفون في شركة واحدة معا، فسميت بذلك، وأحيانا يسميها بعض الفقهاء بجمعية النساء، لاشتهار النساء بها في فترة زمنية، وقد بدأ التعامل بها كما ذكرت بعض الكتب الفقهية في القرن التاسع الهجري. وتعرف باسم البانكة عند الجزائريين، وهي مأخوذة من لفظ البنك. وتسمى القرعة أو دارت عند المغاربة، وهكذا في كل بلد حسب تسميتها.

لماذا حرمها الددو وآخرون؟

ذهب الددو في فتواه، وكذلك من قالوا بالحرمة سواء من المالكية أو غيرهم إلى أنها تشتمل على شبهة سلف جر نفعا، أو معاملة “أسلفني أسلفك”، وأنها تعد من أمهات الربا، كما قال الددو. وثار النقاش حول رأيه، هل بالفعل هذه المعاملة محرمة شرعا؟ وهل هي ربا؟ ولماذا ذهب الشيخ إلى هذا المدى من الشدة في الفتوى؟ وقد أصبحت هذه المعاملة مما عمت به بلوى الناس، فلا يكاد يخلو مجتمع مصري أو عربي من هذه المعاملة، التي تكون حلا لمشكلات ملحة تواجه الناس، من مشكلات المعيشة.

لقد بنى الددو رأيه على تصوره الفقهي للمسألة، حسب المذهب المالكي، وبناء على التصور الفقهي لدى المالكية للربا، كما ناقش ذلك بشيء من التفصيل الدكتور فضل مراد، عند رده على أصحاب هذا الرأي، وعلى رأسهم من المعاصرين الددو، وقامت صفحة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بنشر فتواه. وليس كل المالكية من المعاصرين يذهبون إلى ما ذهب إليه الددو، بل هناك مالكية معاصرون يأخذون بالرأي الذي يجيزها، وعلى رأس هؤلاء: دار الإفتاء الليبية، ومفتيها العلامة الشيخ الصادق الغرياني، وآخرون، كالدكتور بلخير طاهري الإدريسي، الذي كتب فتوى مهمة في الموضوع انتهى فيها بجوازها، مع ضوابط مهمة لمن يأخذ بفتواه، وفتواه وفتوى الدكتور فضل مراد، من أعمق وأوسع الفتاوى تأصيلا للمسألة.

هل كل قرض جر نفعا ربا؟

معظم من يحرمون جمعية الموظفين، يستدلون بحديث: “كل قرض جر نفعا فهو ربا”، وهو حديث ضعيف، هذا من حيث سنده، ومن حيث فقهه، فقد ناقش ذلك عدد من الفقهاء، ومنهم من ذهب إلى أن النفع المرفوض هنا، هو ما كان مشروطا، سواء من المقرض أو المقترض، كما فصل ذلك فقهاء الحنفية، وغيرهم.

وما يؤكد هذا الفهم لهذه القاعدة، ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرًا فجاءته إبل من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أن أقضي الرجل بكره”، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعطه إياه، فإن ‌خيار ‌الناس ‌أحسنهم ‌قضاء”.

جواز جمعية الموظفين

فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجل دينه بزيادة، لكنه لم يكن مشروطا، بل كان حسن رد وقضاء منه صلى الله عليه وسلم، وأما جمعية الموظفين، فلا منفعة فيها، ولا زيادة، لأنه قرض لم يجر نفعا، ولم يُشترط فيه نفع، ولم يحدث فيه نفع بالأساس، بل هو قرض رد إلى صاحبه، كأن الشخص ادخر مالا مع إنسان، ثم استرده بعد مدة معلومة، ومتفق عليها.

ومما يدعم الرأي الذي يجيز وهو الأرجح، ما ورد عن الفقهاء في مسألة لا تختلف كثيرا عن هذه المسألة، بل ربما كان فيها الحذر أشد، وهو ما سماه الفقهاء “السفتجة”، وهي أن يعطي الإنسان مالا لشخص في القاهرة، ليسلمه له في دمشق مثلا، هو نفس المال، وذلك لخوفه من التحرك والسفر بالمال، فقد منعها فقهاء، وأجازها آخرون، وذلك لما تحققه من مصلحة للناس، وبخاصة التجار، وهو ما بات يعرف الآن بالحوالة، أو غيرها من المعاملات البنكية القريبة منها.

فالجمعية إذن تشتمل على مصالح للناس، ولا يوجد نص شرعي صحيح صريح يمكن أن يستند إليه من يحرمها، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا نص هنا، ولا فحوى نص، ولذا لا تعد من الربا، ولا تعد من المحرمات، ما لم تشتمل على محرم، ينقلها من الجواز إليه، والأدلة الشرعية العامة تدعم هذا الرأي المجيز، كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة: 2، وقول عمر رضي الله عنه: “شيء ينفع أخاك ولا يضرك، فلم تمنعه عنه؟!”، ولقواعد المقاصد الشرعية التي تتعلق برفع الحرج عن الناس، وتحقيق مصالحهم الخاصة والعامة.

محاذير ملحة وجديدة

هذه الفتوى المجيزة التي صدرت عن عدد من المشايخ المعاصرين والقدامى، قالت بها: دار الإفتاء المصرية، ودار الإفتاء الأردنية، ودار الإفتاء الليبية كذلك، وهيئة كبار العلماء السعودية، فضلا عن علماء معاصرين، ورد ذكر عدد منهم في مقالنا، ولم يرد ذكر آخرين أجازوها كذلك كالشيخ القره داغي وغيره.

لكن هناك مستجدات لا بد من مراعاتها في فتوى جواز جمعية الموظفين، تختلف من مجتمع لآخر، ففي هذه الآونة هناك مستجد يتعلق بأهل مصر، وهو: التضخم الشديد الذي تعاني منه، وهبوط شديد للجنيه المصري، وهو ما يعني أن الجمعية التي تكون لمدة تصل إلى شهور، سيكون أكثر الناس انتفاعا بها من تسلمها أولا، والأقساط الأخيرة سيقل نفعها، لأن قيمة المال تختلف عندئذ، فما الحل؟

ما نراه في ذلك حتى لا يكون هناك أثرة، وتفضيل دون مراعاة للظروف المالية للمشتركين، أن تجرى قرعة بينهم جميعا، تحدد موعد كل منهم، دون محاباة، أو تفضيل، إلا إذا قدم المشتركون جميعا شخصا ما برضاهم، لعلة حالته المادية، ومعاونة منهم له، فهنا يكون عن طيب نفس، لكن ترك الأمر للأهواء سيدخل المعاملة هنا في موانع، وعلى القائمين على هذه الجمعيات مراعاة هذه الضوابط وغيرها.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان