جنوب لبنان.. للنصر وجوه كثيرة

عودة نازحين لبنانيين إلى الضاحية الجنوبية (الفرنسية)

بمجرد إبرام الهدنة بين إسرائيل وحزب الله، تدفَّق اللبنانيون عائدين إلى ديارهم في الجنوب، وهم يلوحون برايات الحزب الصفراء، المرسومة عليها بندقية وفوقها الآية القرآنية: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.

لم يأبهوا بالتحذيرات التي أطلقها المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، ولم تردعهم التهديدات بـأنهم سيكونون في دائرة الخطر، إن رجعوا إلى القرى الحدودية، قبل أن يُسمح لهم.

ألم يكن توخي السلامة يقتضي التريث حتى تتبدد الغيوم؟ إنها مسألة حياة أو موت.

رجعوا لأن “الأرض تنادي أصحابها”، كذلك يشدهم الطين الذي تضرب جذورهم في أعماقه.

في مشهد العودة تتجسد ملامح انتصار واضحة، وفيه أشياء أخرى.

على الجانب الآخر، لم يعد إسرائيلي واحد إلى المستوطنات الشمالية، بقيت خرائب مهجورة، “وكان هناك جمعُ البومِ والأشباح… يحوم في حواشيها”، كما تقول أمّ الشعر الفلسطيني فدوى طوقان، في قصيدتها “لن أبكي”.

في التناقض تتشكل معانٍ موازية لمفهومي الهزيمة والنصر، بعيدًا عن حساب الركام المتناثر، وزنة القنابل التي ألقيت، وأعداد القتلى من العدو، وبالطبع الشهداء منا.

هذا المعنى يرتسم خيطًا تلو خيط، بفرشاةٍ دقيقة مثابرة متأنية، منذ “اللحظة الطوفانية” المبكرة، والمؤكد أنه معنى بالغ الأثر بأي حراك نضالي.

لا يحتاج تأكيد البديهيات إلى أن نستدعي من التاريخ، النماذج الملهمة عربيةً كانت كالجزائر، أو غير عربية مثل فيتنام، وليس سرًّا أن معارك النضال مهما كانت فواتيرها فداحةً، لا تنتهي أبدًا إلا لمصلحة أصحاب الأرض، التي تحارب مع أصحابها.

نعم.. إن الأرض تحارب مع أصحابها، وتلك مقولة شائعة ليس معروفًا صاحبها على وجه اليقين، لكنه على الأرجح جنرال مهزوم في معركة ما، فأراد أن يبرر ذلك بعبارة جامعة مانعة.

المقولة بما لها من بُعد رمزي، تتأكد كلما توحش العدوان على غزة، وحين شنت إسرائيل الحرب على لبنان.

الهزيمة بتعريف هيمنغواي في العجوز والبحر

معلوم بالضرورة أن نتنياهو أراد تهجير سكان غزة، لكنهم رغم ضراوة القصف، يتنقلون من نقطة جغرافية إلى أخرى داخل القطاع المدمر، رافضين أن يبرحوه.

وفي جنوب لبنان عاد السكان، فور إعلان المبعوث الأمريكي إلى المنطقة آموس هوكستين سريان الهدنة.

في رواية همنغواي “العجوز والبحر”، يصارع الصياد الذي وهن العظم منه واشتعل رأسه شيبًا، سمكة قرش عملاقة علقت بشباكه أيامًا، حتى يسحبها إلى الشاطئ بعد أن بقي منها محض هيكل عظمي، إذ نهشتها صغار الأسماك بعد نفوقها.

عندئذٍ يقول: “قد يتعب الإنسان، وقد ينكسر لكنه لا يُهزم إلا حين يتصالح مع الهزيمة”.

العبارة تنفي تأويلات لبعض النقاد، بأن سمكة القرش ترمز إلى الدنيا، التي يغادرها الإنسان خالي الوفاض، وإن كان ذلك رأيًا ذا وجاهة.

الصراع مع الاحتلال إن وضعناه في ميزان المقاربة ذاتها، لا ينتهي إلا حين يرفع أصحاب الأرض الرايات البيضاء، وهذا لم يحدث على جبهتي غزة ولبنان معًا، بل لم يحدث منذ 76 عامًا.

بعد نحو 14 شهرًا من القصف المتواصل، وفتح مخازن السلاح الأمريكي على مصاريعها، وتسخير الغرب طاقاته التكنولوجية والمادية والعسكرية والاستخبارية والدبلوماسية، لدعم الاحتلال أمام مقاتلين “ينتعلون الشباشب البلاستيكية”، لا تزال المقاومة توجع العدو؛ تنصب الكمائن، ويخرج رجالها من تحت الأرض، كأنهم تسلحوا بقبس من أراوح أسلافهم.

بأي معيار موضوعي لم تُهزم المقاومة، ولم تنته الحكاية، والمؤكد أن تقييم حرب لا تزال مستمرة هو والعدم سواء.

الحروب تخضع للتقييم بعد أن يهدأ الأوار ربما بعد سنوات، لكن وجوه الهزيمة الإسرائيلية ليست مستترة.

هناك أرقام الهجرة العكسية، ومؤشرات الاقتصاد الذي يترنح تحت وطأة هروب رأس المال، وتراجع السياحة، وهناك فوق ذلك الهزيمة النفسية التي تدفع الاحتلال؛ نخبةً ومستوطنين، إلى طرح الأسئلة حول ما إذا كانت إسرائيل بصدد الفناء.

قبل هذا كله هناك الخسارة الأخلاقية الفادحة، بترسخ صورة الاحتلال الدموية أمام الضمير الإنساني، بخاصةٍ بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية، بـ”ضبط وإحضار” مجرمي الحرب نتنياهو ووزير دفاعه المقال يؤاف غالانت.

ما أشبه الليلة بالبارحة

حين أسرت حركة حماس الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، عام 2006، في أول مبادرة هجومية ضد جيش الاحتلال، بنطاق غلاف غزة، امتلأ الفضاء الإعلامي بمتصهينين تشدقوا بلسان عربي مبين، وضمير صهيوني ذميم، بأن العملية استفزت الوحشية الإسرائيلية حتى أشعلت غزة.

مع الهدنة في جنوب لبنان، تشبه الليلة البارحة!

هم هم، يرددون اليوم الهرطقات ذاتها، متجاهلين عن سوء طوية، أن “عملية شاليط” التي كانوا قد انتقدوها، أسفرت بعد مفاوضات استمرت خمسة أعوام، عن تحرير 1024 أسيرًا فلسطينيًّا، وكان الشهيد يحيى السنوار من ضمنهم.

بعد ذلك بأعوام من تحرير الرجل الذي اختصرت عصاه الحكاية، خطط وأشرف على تنفيذ عملية طوفان الأقصى.

كذلك اكتملت حلقة من حلقات دراما فلسطينية مستمرة، منذ ثورة القسام حتى اللحظة الراهنة.

وكذلك لا يجوز الجزم بمن انتصر ومن هُزم.

بالقياس فإن الهدنة في جنوب لبنان بغض النظر عن آليات تنفيذها، ووضعها الهش، واستمرار الحرب على غزة، ليست بمنأى عن حركة التاريخ في الأرض المحتلة.

كلاهما خطوة لها ما بعدها، وكلاهما سيتأسس عليه الحراك في المستقبل.

التنظير الفارغ بأنه كان على المقاومة كذا وكذا، لا محل له من المصداقية، فقراءة كتاب طبي، لا تؤهل لإجراء العمليات الجراحية.

هذا تفسير غير مخل لعبارة “لا يفتي قاعد لمجاهد”.

النضال يتأسس بالتجربة، وما دام التاريخ متصلًا أوله بآخره، فستحدث موجات الصعود والهبوط، والقول الفصل في النهاية سيكون بالعبارة المرهفة القصيرة “الأرض مع أصحابها”.

ثمة دراسة أجريت على قبيلة بدائية، كان رجالها يرقصون رقصة معينة قبيل موسم الزراعة، وكانوا يعتقدون أن هذا الطقس يزيد المحصول.

وحين مُنعوا ذلك، كانت المفارقة أنه حدث تراجع فادح في إنتاجية الأرض، الأمر الذي حيَّر العلماء حتى انتهوا إلى أن الرقصة كانت تشحذ همم أولئك البدائيين، فتدفعهم إلى العمل بروح معنوية أعلى.

لا يوجد سبب منطقي آخر.

تلك هي العلاقة بين الإنسان وأرضه، لا تخضع للمنطقي المتعارف عليه، وهي في الحين ذاته تمثل المنطق كله.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان