الديمقراطية تتراجع.. والاستبداد يقفز إلى السماء!

التصويت المبكر في الانتخابات الأمريكية 2024
التصويت المبكر في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024 (الأناضول)

أثار حرق مراكز اقتراع بولايتَي واشنطن وأوريغون، في الأيام الأخيرة من انتخابات الرئاسة الأمريكية، صدمة لدى جمهور واسع في الولايات المتحدة وخارجها.

اعتاد الناخب الأمريكي رؤية تلك المشاهد في الدول المتخلفة المنقسمة، الحديثة العهد بالممارسة الديمقراطية، والآن يرون قادتهم يكسرون قواعد لعبة تتفاخر الولايات المتحدة بتصديرها إلى أنحاء العالم.

يجبر المتطرفون الناخبين على اختيار ترامب بوصفه الرجل القوى الذي سيعيد المجد لأمريكا. تبث المشاهد فزعا من ظهور فاشية عصرية، تربط بين ترامب والزعيم النازي هتلر، توظف طاقاتها الشعبوية للقفز على السلطة باقتراع ديمقراطي عبر صناديق الانتخابات.

جاءت الديمقراطية الألمانية قبل 90 عاما بالزعيم الأكثر استبدادا، وها هي أمريكا تتجه نحو استبداد راديكالي، لتستكمل المشهد مع طغيان اليمين المتطرف في أوروبا على المؤسسات التشريعية والحكومات المحلية والاتحاد الأوروبي.

تأتي الانتخابات الأمريكية مع نهاية عام انتخابات، إذ شارك نصف سكان الكرة الأرضية من 30 دولة في اختيار حكوماتهم ورؤسائهم، لتدق ناقوس الخطر من تزايد الطغاة وتراجع الديمقراطية، وتعاظم الصراعات على السلطة بين النخب التي تلجأ إلى الشعبوية لترسيخ مكانتها في الحكم.

رؤساء فوق المحاسبة

عززت الانتخابات المباشرة وغير المباشرة استمرار ديكتاتوريين في روسيا والصين، ومدبّري انقلابات عسكرية في إفريقيا، ودعمت فاسدين في مراكز الحكم، ما لبث أن انفجرت ضدهم ثورات شعبية كما حدث في بنغلاديش.

صعدت بقوميين عنصريين إلى قمة السلطة في الهند والمجر وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وهولندا، وأبقت الصهاينة المتطرفين في إسرائيل لتشعل محارق بشرية في غزة ولبنان. وصل المتطرفون عبر صناديق الاقتراع في انتخابات تنافسية، بينما “العالم يشهد مرحلة من التراجع الديمقراطي”، كما تشير منظمة (فريدوم هاوس) وعلماء السياسة والاجتماع.

تثير التحولات الديمقراطية قلقا للجميع، فالانتخابات في حد ذاتها لا تضمن سياسات أو نتائج جيدة، ما دامت لا توفر الفرصة للشعب لمحاسبة القادة على إخفاقاتهم السياسية ومكافأتهم على النجاحات الملموسة.

يشير المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في تحليله لعام الانتخابات بمجلة (فورين أفيرز) الأمريكية، في سبتمبر/أيلول الماضي، إلى أن “الانتخابات تصبح خطيرة عندما ترفع شأن قادة لا يسعون فقط إلى فرض سياسات مشكوك فيها، بل ويأملون أيضا إضعاف المؤسسات الليبرالية والديمقراطية أو تقويضها”.

يحذر الخبراء من التراجع الخطير لعدد الدول الديمقراطية، والعودة باتجاه عكسي، في ظل نمو الأنظمة “الشعبوية” وسيطرة اليمين المتطرف على السلطة، وبروز قادة لديهم رغبة جامحة لتدمير المؤسسات السياسية والرقابية والقبض على النظام القضائي وإنهاء استقلالية البنوك المركزية، واستخدام التكنولوجيا الرقمية أداة للقمع، وتضليل الرأي العام، والسيطرة على تدفق المعلومات والرقابة على الإنترنت وإغلاق المواقع الإلكترونية.

قوة المال والسلطة

يبيّن مؤشر معهد “في-دام” لتحليل السياسات العامة بالسويد التحولات التي أصابت المجتمعات الديمقراطية، بما يجعل الفوز فيها لمن لديه المال والأدوات القادرة على تحريك الرأي العام وحشد قوة تصويتية أمام صناديق الاقتراع والتصويت بطريقة آلية، بما يضمن الفوز، بينما تخسر الديمقراطية وتتراجع إلى المستويات التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية.

سجل المؤشر الذي يغطي 202 دولة، على مسافة زمنية ممتدة منذ عام 1789 إلى 2023، ويتواصل مع 31 مليون نقطة بيانات، عبر شبكة تضم 4200 باحث من 180 دولة، أن سنة 2012 شهدت أفضل معدل لانتشار الديمقراطية خلال الأعوام الـ30 الماضية.

وفقا للمؤشر، تتمتع 42 دولة -من بين 82 دولة كانت ديمقراطية- بحكم ديمقراطي، تتوافر فيه سيادة القانون وحقوق الإنسان. انخفض هذا العدد إلى 34 دولة خلال عامَي 2023 و2024، وفقا للقواعد الحاكمة للديمقراطية التي يحددها المركز البحثي والمطبَّقة في السويد، دولة المقر. تحولت 28 دولة من بين 42 دولة ديمقراطية إلى الاستبداد، وتدهورت 13 دولة من هذه الدول الآن في كل حلقات الدولة الاستبدادية.

ديمقراطية تغذي الاستبداد

يدق الخبراء أجراس الخطر من فشل الديمقراطية وتحوُّل الدول إلى الاستبداد، إذ يوضح تقرير (في-دام) لعام 2024 أن “الاستبداد لا يزال هو الاتجاه السائد عالميا، وتراجع الديمقراطية واضح في شرق أوروبا وجنوبها، وآسيا الوسطى، وبذلك أصبح العالم مقسَّما بين 91 دولة ديمقراطية و88 استبدادية، تمثل 71% من سكان الكرة الأرضية بتعداد 5.7 مليارات نسمة، بزيادة عن 48% ممن عاشوا تحت قبضة الاستبداد قبل 10 سنوات”.

تأثر مستوى الديمقراطية بالتدهور الأخير في الهند ( 1.4 مليار نسمة)، لتنضم إلى الدول ذات الكثافة السكانية العالية، التي تحيا في ظل أنظمة استبداد انتخابية، مثل باكستان وبنغلاديش وروسيا والفلبين وتركيا، بتعداد 3.5 مليارات نسمة، بنسبة 44% من سكان العالم.

تدخل الصين وإيران وميانمار وفيتنام من بين 2.2 مليار نسمة، بنسبة 27% من سكان العالم، في قائمة الأنظمة الاستبدادية المغلقة. تُعَد الديمقراطيات الانتخابية النوع الأكثر شيوعا بين الأنظمة الحاكمة، بعدد 59 دولة، بنسبة 16% من تعداد سكان العالم، من بينها البرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقيا، بينما تضم الديمقراطيات الليبرالية 32 دولة منها الولايات المتحدة، وتمثل 13% من سكان الكرة الأرضية. يضع المؤشر 59 دولة من بين 88 دولة ديمقراطية تعبّر عن نفسها عبر النظم الانتخابية فقط، بين أكثر أنواع الأنظمة الاستبدادية شيوعا في العالم، لدورها في تغذية الاستبداد.

الكيان الصهيوني والديمقراطية

أخرج التقرير الكيان الإسرائيلي من فئة الدول الديمقراطية للمرة الأولى منذ 50 عاما، ليس لعدوانها الوحشي على غزة وحرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال والعنصرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمنطقة، وإنما لتغول حكومته اليمينية الصهيونية على حرية التعبير لليهود والمحكمة الدستورية، بما يهدد استقلال السلطة القضائية، ويقوض نظم الانتخابات.

وضع التقرير الدول العربية في قائمة تتمتع بأدنى مستوى عالمي للديمقراطية، عدا تونس التي سُجلت بقائمة الدول الديمقراطية التي تنحدر نحو الاستبداد الانتخابي، بينما أبقى ليبيا ولبنان في قائمة الأنظمة الاستبدادية.

يحدد المؤشر 7 دول فقط من بين 9 دول تعدادهم 30 مليون نسمة، تتمتع بنظام ديمقراطي من المستوى الأول، يقابلها 25 دولة ديمقراطية توشك على الوقوع في فخ الاستبداد، بينما يتزايد عدد الأنظمة الاستبدادية التي تتجه إلى أنظمة أكثر استبدادا، بما يمثل تغيرات نحو الأسوأ عالميا.

يتهم التقرير مجموعة “بريكس” بأن سجلات أعضائها الاستبدادية ملطخة بالعار، منوها إلى أن الدول لا تضع الحريات المدنية والمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان بين البنود المدرَجة في جدول أعمالها، خاصة بعد ضم كل من مصر والسعودية وإيران، المصنفة من بين أسوأ منتهكي حقوق الإنسان في العالم، ودولة الإمارات العربية التي تحتل مرتبة متدنية في المعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرية التعبير ووسائل الإعلام.

بعد الربيع العربي

سجل المؤشر تراجع الديمقراطية في إفريقيا تدريجيا عقب ثورات “الربيع العربي” لكثرة الانقلابات العسكرية التي تبقي معظم دول القارة في منطقة الاستبداد المغلقة، حيث تتوقف الانتخابات الحرة النزيهة المتعددة الأحزاب وحرية التعبير، ويسود الاستبداد الانتخابي أو البقاء في المنطقة الرمادية مثل جنوب إفريقيا.

يرصد التقرير وجود علاقة طردية بين صعود الأنظمة الاستبدادية وإضعاف حرية التعبير والإعلام وتقويض سيادة القانون، وتدهور نزاهة الإدارة العامة ومؤشرات التنمية.

يَعُد المؤشر حرية التعبير هي الأكثر تضررا من عدم التحول إلى أنظمة ديمقراطية حقيقية، تأتي من بعدها الانتخابات النظيفة، وتداول السلطة عبر الانتخابات، وحرية تكوين الجمعيات والتضييق على المجتمع المدني. تتحول الديمقراطية إلى أداة استبداد في حال عدم تحصينها بمنظومة القيم الأخلاقية التي تجعل منها وسيلة لخدمة الإنسانية.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان