أتبكي على غزة وأنت تركتها!

جثمان طفل شهيد من ضحايا غارة إسرائيلية على مدينة غزة (الفرنسية)

لا يمر أسبوع من أسابيع الحرب والحصار في غزة، إلا ونسمع حديثًا لمسؤول عربي، يتباكى فيه على أحوالها، وما حدث فيها من دمار وفتك بالأبرياء، والأمر عجيب ويدفع إلى الذهن مباشرة عبارة: (أتبكي على غزة وأنت تركتها)، والعبارة شطر بيت بتصرف لقيس بن ذريح الملقب بمجنون لبنى الذي قال في شعره: أتبكي على لبنى وأنت تركتها.

وأحاديث التباكي على غزة، هي قطعًا أحاديث سياسية للاستهلاك المحلي، خاصة أنها لم تترجم إلى أي شكل من أشكال التضامن مع غزة، فقد تجاوزت العديد من الأنظمة مربع غض الطرف والخذلان، إلى مربع الحصار ودعم العدو والمشاركة في العدوان على غزة.

وتتخيل تلك الأنظمة وموظفوها أن الشعوب من السهل خداعهم بدموع كاذبة وخُطب ممجوجة، وأحاديث متهافتة، وحجج واهية، وأقوال تسير عكس اتجاه الأفعال، إلا أن ذلك كله بات محلًا للسخرية والتفنيد والانتقادات في الشارع العربي وعلى مواقع التواصل.

وكأن لسان حال المواطن العربي الواعي بأكاذيب الأنظمة هو نفس ما قال نجيب سرور:

لا يخدعك المسرح والأدوار.. المكياج.. الأزياء.. الديكور.. الإكسسوار.. هذا بعض السوس.. الزاحف في المقهى الملعون.

الطابور الخامس

ربما أكثر الفئات التي ترتدي ثوب التباكي على غزة الآن هم المعروفون عربيًا بالصهاينة العرب، أو “الطابور الخامس”، وهم المجموعة التي تعمل لصالح العدو في الداخل العربي من الكتّاب والصحفيين والناشطين والمؤثرين المعارضين للمقاومة، والمؤيدين للحلف الصهيوني بشكل صريح، ومعظمهم في الوقت ذاته محسوب على الأنظمة العربية التابعة للحلف نفسه، وأكثر هؤلاء حاضرون على وسائل الإعلام والنشر ومنصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت من أهم ساحات العمل والنشاط لهؤلاء، وهم أيضًا كانوا وما زالوا معارضين لأهل غزة والمقاومة منذ اليوم الأول لـ”طوفان الأقصى”.

وقد ردد بعضهم شائعات قتل الأطفال، واغتصاب النساء، ومع الوقت استمر انتقادهم وتصيدهم طوال شهور الحرب الطاحنة، ولكن بأكاذيب مختلفة، بداية من تهريب أبناء القادة من غزة وعيشهم في فنادق أوروبا، ومرورًا بشائعات وجود استثمارات وحسابات بمليارات الدولارات لقادة الحركة في بنوك الخارج، ونهاية باختباء القادة الميدانيين ومقاتلي الحركة في الأنفاق، وهي الأكاذيب والشائعات التي دحضتها الأحداث، وأثبتت كذبها الأيام.

وقد بات هؤلاء الآن بدموعهم المزيفة، وعباراتهم الشامتة يبكون غزة المدمرة الجائعة المحاصرة، ويتساءلون بخبث:

لماذا نحارب المحتل

إذا كانت النتيجة هي الموت والدمار؟!.

والغريب أن بعض هؤلاء من المثقفين والكتّاب والفنانين، يظهرون الشفقة المزيفة تجاه شعب غزة، ويدعون بشكل ناعم إلى نبذ المقاومة، وقبول الاحتلال، والتطبيع مع وجوده، كونه أمرًا واقعًا لا فكاك منه، وهؤلاء هم الصنف نفسه الذي ذكره الكاتب السوري الراحل محمد الماغوط في كتابه “سأخون وطني” حيث قال: (وإنني لا أعتبر أن هناك خطرًا على الإنسان العربي والوطن العربي سوى إسرائيل، وتلك الحفنة من المثقفين والمنظّرين العرب الذين ما فتئوا منذ سنين يحاولون إقناعنا في المقاهي والبارات والندوات والمؤتمرات بأن معركتنا مع العدو هي معركة حضارية وكأنهم ينتظرون من قادته وجنرالاته أن يجلسوا صفًا واحدًا على كراسيهم الهزازة على الحدود مقابل صف من الكتّاب والشعراء والفنانين العرب ليبارزوهم قصيدة بقصيدة ومسرحية بمسرحية ولوحة بلوحة وسمفونية بسمفونية وأغنية بأغنية ومسلسلًا بمسلسل).

كسر الحلقة المفرغة

وكما أن هناك من يبكي على غزة كذبًا، كالمسؤولين المتخاذلين وأيضًا الصهاينة العرب، هناك من يبكي عليها قهرًا وقلة حيلة، كمعظم الشعوب العربية، وهي التي تعجز أن تبرهن على تضامنها مع غزة كما يجب أن يكون.

ولا يمكن بأي حال مقارنة فعاليات الاحتجاج والتضامن التي حدثت في الوطن العربي بمثيلاتها التي حدثت في العشرات من عواصم دول العالم الغربي ومدنه.

ولقد بات تقاعس الشعوب العربية عن نجدة غزة، واستسلامها لمواقف أنظمتها الحاكمة أمرًا ينظر إليه العالم بغرابة، خاصة مع استسلام تلك الأنظمة لحالة الانقسام والتبعية، وهو الأمر الذي جعل أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يتحدث ناصحًا، كما لو أنه أمين عام جامعة الدول العربية، فيدعو القادة العرب في قمة المنامة في شهر مايو من العام الحالي إلى كسر الحلقة المفرغة من الانقسام وتلاعب الأطراف الأجنبية حيث قال:

“هذه عقبات تحول دون تحقيق التنمية السلمية وتعيقكم عن ضمان رفاه شعوبكم، ويتطلب التغلب على هذه العقبات كسر الحلقة المفرغة من الانقسام وتلاعب الأطراف الأجنبية والمضي قدما معا لبناء مستقبل أكثر سلمًا وازدهارًا لشعوب المنطقة العربية وخارجها، ومن شأن الاتحاد والتضامن على كامل نطاق العالم العربي إسماع صوت المنطقة ذات الأهمية الحيوية بمزيد من القوة، وتعزيز تأثيركم على الساحة العالمية”.

عن قساوة المشهد

لا تحتاج غزة للبكاء بقدر ما تحتاج للدعم السياسي والمادي والنصرة والتضامن والطعام والخيام، فقد اجتمع عليها الحرب والحصار والتجويع والشتاء.

وقد ارتبطت المشاهد كلها الواردة من غزة طوال عام مضى بعبارة: نعتذر عن قساوة المشهد، والأمر فعليًا بالغ القسوة والعنف والشراسة.

فهو مشهد إقليمي ذو أبعاد عالمية اختلطت فيه دماء الضحايا بأنخاب المعتدين، ودموع المكلومين بشعارات الساسة والمرتزقة والمرابين، واختلطت فيه أنات المرضى والجوعى والمحرومين بادعاءات أنظمة الخذلان وتجار الحرب وعتاة المجرمين، وهم كما يقول الشاعر اليمني زياد النهمي:

موائدهم من عطايا الحروب

وأَبراجهم من دماء الشعوب.

عالمٌ بات صغيرًا، واضحًا ومكشوفًا للجميع، ألقت فيه أوراق الشجر في بطون الجوعى المحَاصَرين بظلالها على أوراق الاقتراع الانتخابي في القارات الباردة، ورغم ذلك لا عظة، ولا مكان في هذا العالم للإنصاف والرحمة، أو حتى للخجل.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان