مأزق نهضة الصين بين “التنين” الطيب والشرير!

رقصة التنين التقليدية الصينية

قبل أن تعرف صينيًا كن مستعدا لإخباره بصدق عن العام والشهر الذي ولدت فيه، فالأمر ليس تطفلا، ولا تتوقع أن يأتي لك بهدية بمجرد التعارف، فالمعلومات المطلوبة هي التي ستحدد شكل العلاقة بينكما ودرجتها إلى حد خطر. رغم التقدم العلمي والتحول الاقتصادي الذي يقوده حزب شيوعي ملحد رسميًا، منذ 75 عاما، إلا أن الأبراج تلعب دورا مركزيا في حياتهم الخاصة، وتضع إطار الأنشطة والأحداث العامة، وعلى أساسها يمكن للأشخاص والأهل أن يختاروا المهن التي يبين برجه إمكانية التفوق بها، والزوج المناسب، لبناء أسرة سعيدة قادرة على مواجهة المستقبل.

وفقًا للتقويم الصيني فإن الأشهر من دون مسميات كالشهور العربية أو الإفرنجية، وإنما مرقمة من الأول إلى الثاني عشر، طبقًا لدورة القمر حول الشمس، وتبدأ السنة القمرية “عيد الربيع”، ما بين 21 يناير إلى 20 فبراير، بينما الأبراج محددة بـ12 برجا، مرتبطة بأسماء حيوانات.

احذر أن تسخر من اسم الحيوان المذكور في الأبراج، وإلا فعليك أن تدفع ثمن اعتدائك على رموز ثقافية مقدسة إلى أبعد ما تتخيل، يؤمن بها الملحدون الشيوعيون والليبراليون وغيرهم بالصين وكل الدول والأقليات التي خرجت من عباءة الجنس الأصفر.

زواج بأمر الكاهن

تسمى الأعوام في الثقافة الصينية، وفق دورة تكرارية، مكونة من 12 عاما، تبدأ بعام الفأر، ثم الثور والنمر والأرنب والتنين والأفعى والحصان والجدي والقرد والديك والكلب وتنتهي بالخنزير. لكل برج صفات حسنة وسلبية، تحدد المهن المناسبة لصاحبها.

رأيت أناسا يسعون إلى كهنة المعابد الكونفوشيوسية المعلنة والسرية، قبل الزواج، ليحدد لهم الكاهن أفضل توقيت للجماع المفضي إلى ولادة طفل سعيد، واسم المولود، وربما يطلب الكاهن تأجيل قرار التزاوج أو الولادة إلى عام آخر، بحيث لا تتناقض صفات المولود مع الأبوين أو تخالف سمات الشخصية التي يأملون بها.

لا يعتبر الصينيون هذه الاستشارة نوعا من قراءة “الطالع” وفقا لثقافتنا الشعبية، ولكنها تدخل في صميم ثقافة دينية موروثة، منذ 25 قرنا دون أن يروا تعارضا مع اعتناقهم أية أديان أخرى، عدا المسلمين الملتزمين ممن يعتبرون ذلك نوعا من الشرك المبين.

كان عجبا أن يشهد العام الجاري أحداثا كبرى، جاءت على عكس ما اشتهاه الصينيون بحلول “عام التنين”، الذي اقتربت نهايته بعد 8 أسابيع، فقد احتفت الدولة والشعب بقدوم عام انطلاق “النهضة الكبرى”، وتبوؤ الصين ريادة الإبداع والابتكار التكنولوجي في العالم، لمحو آثار العار الذي ألحقه الاستعمار الغربي بالحضارة الصينية بمنتصف القرن التاسع عشر.

تعلق الناس بالخروج من الكبوة الاقتصادية التي منيت بها البلاد منذ أعوام، مع بداية عام التنين، رمز القوة والإبداع والثقة بالنفس، الذي يظهر عادة قوة قادة الأعمال والمبتكرين، فإذا بهم يمرون طوال 2024، بمزيد من الكوارث الطبيعية والأزمات المالية، ويكاد ينتهي العام بتحديات قاسية مع عودة الرئيس الأمريكي “ترامب” إلى السلطة، وإشهاره سلاح العقوبات والجمارك ضد المنتجات الصينية، وطرد اللاجئين منهم إلى خارج الولايات المتحدة.

صحوة التنين

وجد الصينيون الغرب بقيادة واشنطن، ينعتونهم بصفات خبيثة، يحذرون من “صحوة التنين” عبر رموز خطرة، تجعله بالكتب والصحف الكبرى، حيوانا ذا وجه شيطاني ومخالب شريرة عملاقة وفمًا يبتلع الآخرين ولسان ثعبان ينفث سمومه على من حوله، ينشر الشر والكوارث بما يخلق صورة ذهنية سلبية حول كل ما هو صيني.

دفعت الحملات الإعلامية والسياسية المفكرين الصينيين إلى إعادة إحياء مشروع أطلقه أمين الحزب الشيوعي في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية وو يو فو عام 2006، لإعادة سرد قصة “التنين” في عواصم الغرب وأنحاء العالم، لتتماشى مع ثقافة التنين الصيني الممتدة منذ آلاف السنين، وتعكس كونه حيوانا لطيفا يرمز للخير والخصوبة، التي ينشرها بمناطق سكنة في البحار والبحيرات والأنهار.

استرجع علماء التنانين بالجامعات، أعمالهم التي بدأوها عام 2007، ضمن مبادرة تصحيح الاسم الأجنبي لكلمة “تنين” التي تشكلت في الوعي الغربي وفقا لمفهوم المستشرق الإيطالي القس ماثيو ريتشي (1552-1610)، الذي جاء داعيا للكاثوليكية، فأعجب بالثقافة الكونفوشية، واتخذ من رموزها وملابسها وإتقانه اللغة الصينية، وسيلة للتقارب مع أسرة “مينغ” الإمبراطورية والطبقة الأرستقراطية.

ارتكب “ريتشي” خطأ تاريخيا عند ترجمته كلمة “تنين” التي تكتب وفقا للأبجدية الصينية المصورة، من ثلاثة مقاطع، فإذ به يحولها إلى مقطعين فقط، ليكتفي بالضغط على الحرف الأوسط، ليصبح مشددا وفقا للنص اللاتيني، لتتحول مع اللفظ المنطوق من “لوونغ” Loong إلى “لونغ L`ong”. هذا الفرق اليسير شكلا والعميق –وفقا لعلماء اللغة الصينية- أزال حرفي “OO” اللذين يمثلان عيني التنين الطيب، بما عكس القيمة الجميلة لرمز الصين، فأحاله من أيقونة للخير والنماء والحظ السعيد إلى رمز للشر والكوارث.

رغم اعتراف الصينيين بالدور الكبير الذي لعبه المستشرق الإيطالي في تعريف الغرب بثقافتهم وصناعاتهم المتفوقة في العصور الوسطى، الذي نهل الغرب منها بغزارة ببداية عصر النهضة الأوروبية، جعلت الطبقة الحاكمة والأرستقراطية تتفاخر بارتدائها الأزياء من الحرير والمجوهرات واقتناء المصنوعات الخزفية المزينة برسومات التنانين والعنقاء.

نظرة عنصرية

نشر “ريتشي” ثقافة الشرق بين الصفوة الأوروبية التي دفعت بالإرساليات والتجار للبحث عن كنوز الصين الثمينة من صناعات دقيقة وملابس فاخرة وأدوات تجميل وعطور وثقافات غزيرة، إلى أن بدأت الأطماع الغربية بثروة الصين، واحتلال أراضي الدول الواقعة على مسار طريق الحرير البري والبحري القديم، بداية من المشرق العربي وإفريقيا وانتهاء بالهند والفلبين وإندونيسيا وأستراليا، ثم اتجهت لغزو هونغ كونغ، وشينزن “الكانتون” وشنغهاي، وإجبار بيجين على فتح أراضيها أمام تجارة الأفيون الذي يزرعه البريطانيون في الهند وأفغانستان.

تحول خطأ “ريتشي” غير المقصود إلى ازدراء واحتقار متعمد من الغرب للثقافة الصينية التي جعلت من تصاميم التنين على الملابس الملكية وطبقة النبلاء في لندن وباريس رسوما كرتونية مسيئة، لمجرد وقوف شعب الصين ضد الأطماع الاستعمارية للغرب، الذي بدأ احتلال أراضيها عام 1856، وقسمها إلى أجزاء، حتى سقطت في القرن العشرين بقبضة 9 دول أوروبية، منها روسيا والبرتغال وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا بالإضافة لليابان.

حل الازدراء بالغرب محل الحماس لكل ما هو صيني، لم يخفت إلا لفترة قصيرة بدأت مع عودة العلاقات الصينية–الأمريكية عام 1972، في محاولة لإبعاد بيجين عن موسكو ودمجها بالاقتصاد الغربي بعيدا عن الشيوعية.

تحولت الصين إلى مصنع العالم وأكبر سوق للرأسمالية، خلال 4 عقود، إلى أن بدأت تحتفي بثورة التنين والتوجه نحو عصر النهضة من جديد، فاستعاد الغرب نظرته العنصرية بتوظيف خطأ “ريتشي” ليصبح خطيئة مقصودة لإهانة كل ما هو صيني، بما حفز الشعب إلى جعل التنين رمزا وطنيا وثقافيا يرفعه في مواجهة الآخر، بتحد وعناد، وإن لم يتمكن بعد، من محو آثاره السيئة المكتوبة بالقواميس الغربية والمفردات والرسوم التي انتقلت عبر أوروبا وأمريكا إلى أنحاء العالم.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان