«أمريكا شيكا بيكا» بين العرب وانتخابات 2024

صناديق التصويت في الانتخابات الأمريكية (الفرنسية)

هل تتذكرون فيلم “أمريكا شيكا بيكا” للمخرج المصري المبدع خيري بشارة؟ صحيح أن الفيلم مَرّ عليه نحو الثلاثين عاما، لكن يتبقى في الذاكرة هذا التيه بغابات رومانيا في الطريق لأرض الفرص والأحلام والأوهام، الذي انتهى إليه الحالمون بالهجرة إلى الولايات المتحدة من بلد طارد لأهله وشبابه كمصر. ببساطة وكما يحدث كثيرا ولليوم وقع الحالمون ضحية نصابين، لصوص ليسوا ظرفاء.

تتحول الكوميديا في الأفلام إلى مأساة تراجيدية إذا ما سلكت الأمم والدول سلوك أفراد بسطاء حالمين مخدوعين، وتصبح وكأنها تدمن الوقوع ضحايا للنصب على نطاق دولي عصرا تلو آخر. لذا فإن للناظر لما يلي الانتخابات الأمريكية “الثلاثاء الكبير” اليوم 5 نوفمبر 2024 أن يتوقف بانتباه عند مجموعة معطيات، قد تقي من ضلالات التخلف العربي المزمنة تجاه السياسة الأمريكية وقضية فلسطين والصراع مع الصهيونية في المنطقة. وبالإمكان الإشارة إليها وإيجازها في النقاط التالية:

الأضعف والأقل

شعبية ولكن

ـ المرشحان المتنافسان هاريس “الديمقراطية” وترامب “الجمهوري”، يوصفان بأنهما الأضعف والأقل شعبية في انتخابات رئاسية بالولايات المتحدة منذ 70 عاما. كما أن استطلاعات الرأي الأخيرة تفيد بانخفاض لافت في ثقة المواطنين الأمريكيين بمؤسسات الحكم والهيمنة، وبنسبة أصبحت تتجاوز الثلث، وسواء أكانت “الإدارة”، أي الحكومة، أو الإعلام. وهذا ما يدركه الحلفاء في إسرائيل، وكما مقال بعنوان “أمريكا في أزمة لن تحلها الانتخابات” لدان زمانسكي في النسخة الإنجليزية من “يديعوت أحرونوت” 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

ـ صحيح أن الانتخابات الأمريكية لم تفرز مرشحا ثالثا قويا يدخل إلى المنافسة بجدية من خارج مؤسستي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولم تكسر الحلقة الشريرة لسيطرة كبار رجال الأعمال والشركات العملاقة عليها، بما في ذلك النشطة في صناعة وتجارة السلاح والموت والدمار، تمويلا لحملات المرشحين والحزبين ولوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.

لكن لا يفوت المراقب لها على مدى عقود أن يتنبه إلى أمرين: أولهما، أن هذه الانتخابات تشهد دعوات وحركة مقاطعة لافتة. وهذه المرة بفضل وعي متزايد بخطايا السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، ودعمها للصهيونية وعدوانيتها وإرهابها، وكما تتجسد منذ ما يزيد على عام في الحرب على غزة ولبنان تمويلا وتسليحا ومشاركة. وعلى هذا النحو تجلت في الفضاءات العامة بالمدن الأمريكية فعاليات حركة “لا تصويت لداعمي الإبادة”، وداخل صفوف الحزب الديمقراطي عقابا لإدارة بايدن / هاريس. كما برزت جيل ستاين مرشحة حزب الخضر المؤيدة بوضوح للحق الفلسطيني.

والثاني أن انتخابات 2024 تعرف عودة قوية لترامب، بما يمثله من انقلاب على ما يسمى “بالتقاليد والمؤسسات الديمقراطية الأمريكية”، ويعطي الضوء الأخضر لموجة جديدة من صعود اليمين المتطرف العنصري شبه الفاشي داخل الولايات المتحدة وفي القارة الأوروبية. وثمة هنا ما يقال عن تأثير رجال الأعمال وشركاتهم العملاقة في تخريب مكتسبات نضالات أمريكيين أحرار من أجل المساواة والديمقراطية والحقوق والحريات منذ تأسيس الولايات المتحدة.

وفي هذا، كتب جورج مونبيوت البريطاني الحاصل على جائزة أورويل في “الغارديان” 2 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري مقالا بعنوان: “هل بإمكان الديمقراطية الآن النجاة والعيش في عالم حيث يستهدفها أغنى رجل؟”، وذلك في إشارة إلى تأييد إيلون ماسك لترامب. وحذر من أن فوز المرشح الجمهوري يمثل نقطة انطلاق لنفوذ وسلطة أكبر لماسك، وما يمثله من قيم وممارسات ومصالح رأسمالية ضد الفقراء ومدمرة للبيئة، ومحذرا مما وصفه بـ”انزلاق الديمقراطية إلى حكم الأقلية”.

حسابات معقدة

ـ لا تخلو من تعقيدات وانقسامات حسابات الناخبين العرب والمسلمين والتقدميين واليساريين ومن أنار 7 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 وما بعده وعيهم على حقائق الصهيونية وفلسطين. وإلى جانب المقاطعين الغاضبين على مشاركة إدارة بايدن/ هاريس في حرب الإبادة وغير الواثقين في وعود الأخيرة بالعمل لوقف إطلاق النار في غزة ومن ثم لبنان ورفع المعاناة عن المدنيين بهما، هناك من يراجعون التوجه للمقاطعة على ضوء أن فوز ترامب والجمهوريين سيمنح رئيس الحكومة الإسرائيلية مساحة أرحب للإمعان في العدوان.

وفي سياق “التصويت النافع”، جاء مقال السيناتور اليساري بيرني ساندرز بالغارديان 30 أكتوبر محذرا من  أوضاع أسوأ بكثير لغزة والشرق الأوسط مع ترامب رئيسا، حاثًا هاريس على بذل الجهد لتغيير السياسة الأمريكية تجاه المنطقة بعد فوزها. وحتى توماس فريدمان الكاتب الأمريكي، ولا يمكن اعتباره ناقدا للصهيونية، كتب في آخر مقالاته الشهر الماضي “بنيويورك تايمز” محذرا من تأثير الداعمين لترامب على مصالح العرب واليهود الأمريكيين والشرق الأوسط. كما دعا واشنطن إلى ما وصفه “بالحب القاسي” الذي آن أن تظهره لتل أبيب.

غرام بلا كوابح

ـ حالة التنافس بين أصحاب “المؤسسة” بالحزبين الديمقراطي والجمهوري في إظهار الحب والغرام بلا كوابح لإسرائيل لا شك فيها، وتجاوبا مع مصالح شركات رأسمالية عملاقة وأجهزة أمنية متغلغلة في بنية النظام الأمريكي. ومن نافلة القول إن الخلاف بين الإدارة ديمقراطية أو جمهورية مع تل أبيب محكوم بسقف منخفض متين.

لكن هذا لا يخفي كون منافسة ترامب بقوة في انتخابات 2024 تعني أنك تستطيع أن تكون فاسدا ومعتديا على الديمقراطية والمؤسسية والنزاهة ومتهما ومدانا بالفساد أمام المحاكم وتفوز بثقة الناخبين. وهذا هو تماما نتنياهو في حالة “الديمقراطية الإسرائيلية” العنصرية والمزعومة.

كما أن فوز المرشح الجمهوري يفتح الباب لاستئناف الابتزاز الفج السافر لدول عربية، وبالأخص خليجية نفطية، في اتجاه التطبيع، والاصطفاف الضار بها ضد طهران، ونسف بعض التقارب الذي طرأ معها في السنوات الأخيرة. وهو ابتزاز سيشمل ملف أسعار النفط وكميات إنتاجه.

والمتابع لتصريحات ترامب وهاريس تجاه قضايا المنطقة خلال الحملة الانتخابية يدرك بأن الأول أكثر تشددا، بل وتهورا، في التحريض ضد إيران ودعمها للمقاومات العربية، وإلى حد القول لإسرائيل علنا: “اضربوا منشآت إيران النووية، واهتموا بالباقي لاحقا”.

لذا فإن كاتبا بصحيفة كندية عريقة، “دوج ساندرز” في “ذا غلوب أند ميل”، أجاب يوم 1 نوفمبر الجاري عن عنوان مقاله :” تصعيد الحرب لانتخاب رئيس أمريكي ..هل هذه هي استراتيجية نتنياهو؟”، بنعم.

ـ وهذا لا يعني أن يصدق عاقل بيننا أو في العالم أن هاريس صادقة في قولها الانتخابي: “إنها وبايدن يعملان على مدار الساعة لوقف إطلاق النار”. والأيام لم تعد بيننا، بل أصبحت اليوم وراءنا.

*

المعضلة التي يواجهها العرب بعد انتخابات 2024 الأمريكية تتمثل في أن نظامهم الرسمي في وضع بالغ الهشاشة سواء من حيث عجزه عن التعامل مع المخاطر الأمنية للعدوانية الإسرائيلية التوسعية، أو لاتساع المسافة بينه وبين الجمهور العربي في أغلبيته مع فلسطين ولبنان والمقاومة، كما هو حاله ابتعادا عن حقائق الجغرافيا والتاريخ.

بالطبع هناك حسابات معقدة بشأن مدى وسرعة استجابة المزيد من الدول العربية لموجة جديدة من التطبيع بعد كل ما جرى منذ 7 أكتوبر مقاومة فلسطينية لبنانية يمنية عراقية وإبادة إسرائيلية ومشاركة أمريكية. إلا أن إعادة إنتاج أوهام “أمريكا الشيكا بيكا” عندنا ستقود إلى المزيد من الخيبات الكوارث والهزائم. وهذا حتى لو قيل إن أنظمة عربية محمية من غضب الشعوب برعاية واشنطن والبيت الأبيض.

وما زالت في الآذان وعلى الخاطر كلمات رئيس عربي مخلوع: “المتغطي بالأمريكان عريان”.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان