«هآرتس».. صرخة من الداخل.. كي لا تأكل الأفعى نفسها

عاموس شوكن مالك صحيفة هآرتس العبرية (منصات التواصل)

 

في ظاهرة نادرة ومثيرة في عالم الحيوان، قد تشاهد أفعى وهي تبتلع نفسها، ظاهرة يفسرها علماء الأحياء بأنها تصرف عشوائي ناتج عن عوامل نفسية وجسدية ضاغطة، مثل الجوع، أو المرض، أو التوتر. إذ تعتقد هذه الثعابين أن ذيولها هي فريسة في لحظة من التشويش أو الارتباك، وبهذا السلوك المدمر للذات، تبدأ في أكل أجسامها دون أن تدرك.

المفارقة أن هذا السلوك الغريب يمتد إلى عالم السياسة، حيث يمكن لبعض الدول، عندما تُقاد بواسطة قيادات متطرفة أو تعيش حالة من الفوضى، فإنها تتخذ سياسات هدامة، تماماً كما يفعل الثعبان حين يبتلع نفسه، وتُظهر العشوائية وانعدام التخطيط في تقدير العدو والمخاطر الحقيقية.

صحيح، لم يُعرف عن عاموس شوكن مالك صحيفة هآرتس العبرية هذا التصريح الذي ذَكرته سابقاً، ولكنه من خلال إدارته لصحيفة هآرتس، مارس تأثيراً مهمًا في المشهد الإسرائيلي يحذر الدولة العبرية من أن تأكل نفسها، فالتحقيقات والآراء التي تنشرها الصحيفة تعكس مخاوف حول سياسات إسرائيل، سواء تجاه الفلسطينيين أو تجاه المنطقة والعالم. تلك السياسات التي ترى الصحيفة انها ستدفع إسرائيل إلى التآكل من الداخل، كما تأكل الأفعى ذيلها في لحظة تخبط وخوف.

هآرتس.. صوت مختلف

شوكن لم يكن صريحًا بشكل مباشر ضد إسرائيل كدولة، لكنه ساهم في تحريك المياه الراكدة في الإعلام العبري الذي يتبنى وجهة النظر الرسمية، إذ وجّه انتقادات حادة لسياسات معينة يرى أنها قد تعود بالضرر على المدى البعيد على المجتمع الإسرائيلي، مثل قانون الدولة القومية والتمييز ضد الفلسطينيين.

وفي خطوة جريئة لم تصدم فقط حكومة نتنياهو بل صدمت العالم، وصف عاموس شوكن، المقاومين الفلسطينيين بأنهم مقاتلون من أجل الحرية، تصريح انتشر كسرعة الضوء ليتناقله الكثير من وسائل الإعلام، ذاك أن التصريح جاء في مؤتمر صحفي عُقد في بريطانيا، الدولة التي ساهمت في منح إسرائيل الحقوق لاحتلال فلسطين.

هذا التصريح المفاجئ، أثار غضب الجهات الرسمية، حيث أطلقت وزارة الداخلية بالتعاون مع وزارة الاتصالات حملة تحريض ودعوات لمقاطعة الصحيفة، وشملت عقوبات حكومية، إذ عكس هذا التصعيد مدى التوتر الداخلي المتصاعد في دولة الاحتلال تجاه وسائل الإعلام التي تتبنى مواقف تخالف الرواية الصهيونية الرسمية.

لكن المفارقة المؤلمة، تكمن في أنه بينما يصف إعلامي إسرائيلي صهيوني نضال الفلسطينيين بحقهم في الحرية، لا يزال بعض الإعلاميين العرب ومحطاتهم، بل وحتى بعض الدول، يصفون المقاومة الفلسطينية بأنها “إرهاب”. لذا نجد أن هذا الاعتراف الواضح من داخل إسرائيل ذاتها بمشروعية المقاومة، يكشف عن قناعة واقعية لدى بعض الأطراف الإسرائيلية بضرورة إعادة النظر في الحلول المقترحة، وينبذ النهج القائم على المجازر والتدمير الذي يؤدي إلى نهاية الدولة العبرية.

تصريحات مالك صحيفة هآرتس الذي آمن دائما بحل الدولتين، يراها القلائل من العقلاء في دولة الاحتلال، السبيل الوحيد لضمان أمن شعبهم واستقراره على المدى الطويل. وبهذا الطرح، يظهر شوكن كواحد من الأصوات النادرة التي تدعو لسلام يحترم الحقوق الفلسطينية، بل ويبدو بمثابة اعتراف ضمني بأن الفلسطينيين في نهاية المطاف سينتصرون في كفاحهم المشروع.

تلاشي شعارات الديمقراطية أمام الانتقاد

ومما لا شك فيه أن موقف صحيفة هآرتس والردود الرسمية من الحكومة الإسرائيلية على مقاطعتها، يعكسان أزمة حقيقية في ممارسات الديمقراطية وحرية التعبير التي لطالما تبجحت بها الحركة الصهيونية. حيث تظهر هذه الأحداث كيف أن الشعارات الوردية تتلاشى أمام واقعٍ مغاير.

ترى هآرتس أن تحوّلها إلى تبني مواقف معارضة متزايدة إزاء السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين يعود إلى عاملين رئيسيين مترابطين. العامل الأول يتمثل في توسّع سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، والعامل الثاني هو تصاعد النزعة الاستيطانية المتشددة داخل المجتمع الإسرائيلي وتزايد نفوذها. هذان العاملان دفعا الصحيفة تدريجيًا لتبني توجهات نقدية متزايدة، مدفوعة بشعور متصاعد بأن “الدولة الإسرائيلية” نفسها أصبحت في خطر، وأن هذا الخطر سيقود إلى الانهيار.

وفي هذا الإطار، من المهم أن نفهم أن عاموس شوكن، مدير صحيفة هآرتس، لا ينبغي أن يُصوَّر كمدافع بطولي عن القضية الفلسطينية. فبغض النظر عن انتقاداته، يفتخر شوكن بهويته الصهيونية، حيث يردد: “نعم، أنا صهيوني”. لكنه يشير إلى أن الإيمان بالصهيونية كما ورد في إعلان استقلال إسرائيل يتعارض مع قانون الدولة القومية لليهود، الذي يُعتبر قانونًا يحمل طابعًا فاشيًا، قانون لا يميز بين اليهود والفلسطينيين فقط بل يميز بين اليهود أنفسهم وفق أصولهم.

قد يكون تصريح عاموس شوكن الأخير، الأكثر إثارة للجدل ليس فقط في إسرائيل، ولكن تاريخ هآرتس غني أيضاً بفضح الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ففي العام 2022، نشرت هآرتس فضيحة بارزة بعنوان “ارمِ خبزك”، التي تُعتبر واحدة من أهم التحقيقات في تاريخ الصحيفة. وكشف التحقيق عن وثائق سرية توضح أوامر من الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1948 بتسميم آبار المياه في القرى الفلسطينية، ضمن عملية سرية أشرف عليها دافيد بن غوريون ويغائيل يدين، بهدف منع الفلسطينيين من العودة إلى قراهم بعد تهجيرهم.

ولا يمكن إغفال الدور البارز الذي لعبته هآرتس أيضاً في كشف الفساد والرشاوى المرتبطة ب نتنياهو، إذ سلطت الصحيفة خلال السنوات الماضية، الضوء على الفضائح المتعلقة بمسؤولية نتنياهو في قضايا الفساد، لكن ذلك النهج لم يشفع للصحيفة، ولم يوقف النقد الموجه لها، ليس فقط من قبل الحكومة وإنما من المجتمع الإسرائيلي أيضاً، ذاك الذي يتهمها بالخيانة ويزعم أنها تتعاون مع الروايات المعادية لإسرائيل.

  الأثر والتحدي المستمر

ربما لا تستطيع هآرتس تغيير موازين القوى الدولية العمياء المائلة باتجاه الصهيونية، لكنها تلعب دورًا محوريًا في تدمير الصورة التي يروجها الكيان المحتل أمام العالم، وذلك من خلال تسليط الضوء على الانتهاكات وفضح الجرائم.

يمكن القول إن “هآرتس” تواجه اليوم تحديات كبرى؛ فهي ليست فقط صوتاً ليبرالياً في مجتمع مضطرب، لكنها أيضاً تمثل نوعاً من ” التوازن العقلاني” الذي يواجه سلطة باتت، تماماً كالثعبان، تلتهم نفسها وتلتهم حقوق الآخرين.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان